الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الأندلس في عصرها الذهبي
8 رمضان 1442هـ
شبه جزيرة أيبيريا أو هسبانيا، أو بلاد الأندلس كما سماها المسلمون، وهي البلاد التي تقع جنوب غربي قارة أوربا، يفصل بينها وبين المغرب ما يعرف بمضيق جبل طارق، أما اليوم فهي مملكة اسبانيا والبرتغال، يحدها المحيط الأطلسي من شمالها وغربها، ومن الجنوب والشرق البحر المتوسط، فيما تحدها من شمالها الشرقي فرنسا.
بلاد واسعة ذات أرض خضراء وجبال عالية وطبيعة خلابة وخيرات كثيرة، كان يحكمها القوطيون المسيحيون في عهد الملك القوطي لُذريق، قبل أن يفتحها المسلمون بقيادة طارق بن زياد سنة 92 هـ، الموافقة لسنة 711م.
حكم المسلمون الأندلس ما يقرب من ثمانية قرون، ازدهرت فيها البلاد، وتنعّم فيها العباد، وبلغت عصرها الذهبي، وأسلم الكثير من أهلها. 

هسبانيا قبل دخول الإسلام
كانت شبه جزيرة أيبيريا أيام الملك القوطي لُذريق، تعيش حالة من الضعف والانحلال والانقسامات والمشاكل الداخلية، تارة بين الحكومة واليهود المتنفذين، وأخرى بين الحكومة والشعب المضطهد، يضاف الى ذلك حالة التسلط الدكتاتوري الظالم للملك لُذريق، وتسلُّط الكنيسة وتوجهها نحو المنافع الشخصية والتملك اللا مشروع، المتمثل ببسط نفوذها على الأراضي الواسعة، وضمها الى أملاك الكنيسة واسترقاق أهلها، فضلا عن استئثار طبقة النبلاء بالأراضي الزراعية واستغلال الطبقة الفقيرة من الشعب لخدمتها، أدى ذلك كله الى حرمان غالبية الشعب من حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة، إضافة الى تفشي الجهل والأمية بين الناس، وعلى وجه الخصوص، بين أفراد الطبقة الفقيرة والمحرومة، والتي كانت تمثل آنذاك، الغالبية العظمى للشعب الهسباني، كل ذلك أدى الى تصاعد الغليان الشعبي لدى الطبقة المحرومة من الشعب وتمردها على الحكم الجائر، ومما تجدر الإشارة اليه هنا، هو أن البلاد بحاجة ملحّة للإصلاح، وأن الغالبية العظمى من الشعب، ستكون مع أي حركة إصلاحية من شأنها تغيير الأوضاع المأساوية في البلاد.

الأندلس بعد دخول الإسلام
لم يكن من فكر الإسلام أن يظلم أحد، أو يستعبد أحد، أو يجبر على اعتناق عقيدته أحد، بل هو شريعة سمحاء تهدي للتي هي أقوم، فان اتّبعها الناس، فبها ونعمت، وإلا فهم أحرار في البقاء على دينهم وعقيدتهم، ((لا إكراه في الدّين قد تّبين الرشد من الغَيّ))(البقرة-256)، وليس أدلّ على ذلك من وجود معتنقي الديانات الأخرى في البلاد الإسلامية، وتعايشهم السلمي جنبا الى جنب مع إخوانهم المسلمين الى يومنا هذا، ثم ان المنهج الإسلامي في الدعوة، يعتمد مبدأ الوعظ والإرشاد ((ادعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين))(النحل-125).

منجزات اسلامية
دخل الإسلام الأندلس بهذه المبادئ السماوية، فعامل شعبها معاملة الهادي الناصح، لا المستعمر الغاصب، خلّص شعبها من جور النبلاء وأطماع الكنيسة، وظلم الحكومة، وأعاد بناء المدن الأندلسية بأبهى صورة، حتى ظهرت بأجمل حلَّتها في العصر الإسلامي، وبلغت عصرها الذهبي، كقرطبة واشبيلية وغرناطة وغيرها.

نشر الثقافة والعلوم
كما اهتم المسلمون بدور العلم، كالمدارس والجامعات والمكتبات الضخمة، فأسسوا جامعة قرطبة الكبيرة، ومكتبة المسجد الجامع، التي كانت تضُمُّ خزانتُها أربعماِئة ألف كتاب، في مختلف العلوم والآداب والفنون والمعارف، وأخذ طلاب العلم من مختلف بقاع الدولة الإسلامية، ومن غيرها يتوافدون على بلاد الأندلس، كما استقطبت عشرات العلماء والمفكرين، أمثال أبي علي القالي، ومحمد بن يوسف الحجازي، وربيع بن زيد وغيرهم كثيرون، كما نشطت حركة الترجمة من والى العربية، فيما كثُر النساخون والورّاقون الذين دوّنوا الآلاف من الكتب. 
ثمة شيء تجدر الإشارة اليه، وهو أن المسلمين لم يكونوا وحدهم من استفاد من هذه النهضة العلمية الكبيرة، بل كان المسيحيون واليهود من مختلف طبقات الشعب الهسباني ومن خارجه، من الذين تعلموا القراءة والكتابة، من المستفيدين من هذه النهضة، اذ تعلّم الكثير منهم اللغة العربية، ومن ثم دخلوا الإسلام.

الصناعة والتجارة
تطورت الصناعات الخفيفة في البلاد، بعد نقل الخبرات والمهارات الشرقية اليها وانضمامها الى ما هو موجود أصلا في بلاد الأندلس، كما نشطت الحركة التجارية بشكل كبير، بعد انفتاح أسواق الشرق للسلع والبضائع المختلفة منها واليها، وقيام مبادلات تجارية واسعة بينها وبين بلدان ومدن الدولة الإسلامية الأخرى، وكذلك مدن أوربا.

الإرث الحضاري
خلف المسلمون في بلاد الأندلس إرثا حضاريا وثقافيا كبيرا، تمثل بما شيدوه طيلة ثمانية قرون من تواجدهم على أرض الأندلس، تركوا فيها قصورا شامخة، ومساجد كبيرة، ودور علم كثيرة، وحدائق غنّاء، غطّت جميع أرجاء البلاد، لا سيما قرطبة وطليطلة واشبيلية وغرناطة، ظلت صروحها قائمة الى يومنا هذا، كقصر الحمراء وقصر جنة العريف في غرناطة، وكاتدرائية مسجد قرطبة، كذلك قنطرة قرطبة الأثرية الشهيرة، التي يبلغ طولها (400)م وعرضها (40)م وارتفاعها (30)م وغيرها كثير، يقصدها السياح والزائرون من مختلف دول العالم، للاطلاع على بقايا حضارة عريقة عاشت لثمانية قرون على هذه الأرض. 

سقوط الأندلس
بلغت بلاد الأندلس الإسلامية، أوج عظمتها، من الوحدة والتماسك والازدهار، حيث الرخاء الاقتصادي والعدل الاجتماعي والتطور العلمي، وانتشار المدارس والمكتبات، تقصدها الناس من كل حدب وصوب للتجارة والسياحة وطلب العلم، بدأ السقم يتسلل الى جسدها، والتفكك ينهش في أعضائها، وذلك باستقلال المدن على أساس الطوائف، فتقسمت البلاد الى واحد وعشرين إمارة صغيرة ضعيفة، سرعان ما نشبت بينها الصراعات والنزاعات، حتى أصبحت لا تستطيع الدفاع عن نفسها، أضف الى ذلك، انغماس الأمراء والحكام بمجالس اللهو والترف، ملقين حبل الدولة على غاربها، مما دفع بعض القادة الإسبان الى استثمار هذه الفرصة السانحة، فقاموا بالهجوم على مدينة طليطلة واستردادها سنة 1085هـ بقيادة الملك فرديناند الأول، تلتها النكسات المتعاقبة والانهزامات المتوالية، حتى لم يبق من البلاد سوى مملكة غرناطة، آخر معاقل المسلمين.
وفي اليوم الثاني من كانون الثاني من سنة 1492م الموافق لسنة 897هـ، قام الملكان الإسبانيان فرديناند وايزابيلا بمحاصرة غرناطة، أدّى الى استسلام آخر ملوكها أبو عبد الله الصغير، وبهذا انتهى عصر الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا، بعد حقبة دامت ثمانية قرون من الزمن.