يوقف المسلمون بعض ما يملكون؛ لخدمة الناس، يقصدون بها وجه الله، على سبيل المنفعة العامة، وهم بذلك يأثرون جزءا مما ملكوا، ويذرونه لخدمة عامة الناس بعنوان الوقف، وجمعها أوقاف.
وقد مارس المسلمون وقف بعض ما ملكوا، بل أن قراءة سير أوائلهم يُنبئنا بأنهم تعاهدوا واعتادوا على ذلك، في سبيل الله سبحانه، فـ "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف وقفاً"، و "ما أعلم أحداً كان له من مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث".
وعلى الرغم من كون المسلمين قد أوغلوا كثيرا في وقف بعض ما ملكوا، إلا أنه ـ الوقف ـ ليس من مبتكرات فقههم وثقافتهم المجتمعية، فقد كانت الأمم القديمة تمارس بعض أشكاله، ومن ذلك منح بعض السلاطين جنودهم حق الانتفاع ببعض أراضيهم واعيانهم وأطيانهم، دون حق تملكها، ولا التصرف بها على غير هذا النحو الموقوفة لأجله، ومن ذلك ما تعاهده ملوك مصر القديمة بالسماح بصرف ريع ما ملكوا دون حق التصرف به، خصوصا فيما يعنى بالجوانب العبادية ومنها إقامة الشعائر.
كما عمل ملوك الرومان على ذلك ايضا، من خلال نظام الأحباس، ومن ذلك حبس جزء من الكنيسة لرعاية الفقراء والعجزة.
وقد جاء الإسلام بتتمة هذه الممارسة الإنسانية، وضبطها وتشذيها وتحقيلها وتبني مخرجاتها بشكل أنفع وأعم، خصوصا وأنه ـ الإسلام ـ أحرص على تبنى المثل الإنسانية والاجتماعية ومنها التكافلية من غيره، فراح يوجه العطاء ويبوبه وينفع به من هو أحق، مستفيدا من مبدأ العطاء والإنفاق في سبيل الله (الزكاة والخمس والصدقات وما الى ذلك)، باعتبارها الأرضية النفسية التي تدفع الفرد لثقافة التكافل والإنفاع للغير، فراح المسلمون يوقفون بعضا مما ملكوا في سبيل الله، ولخدمة الأغراض النبيلة، خصوصا بعد أن قُننت مبادئ الصدقة والعطاء، فعلى الرغم من عظيم شأن التصدق والزكاوات، إلا أن الأعظم شأنا هو ادامة المنفعة من هذه الصدقات والعطيات؛ وهو أنفع للمجموع و أحرز لأجر الواقف حتى بعد موته، وفي ذلك ثواب لا ينقطع وهو عين ما كان نبي الإنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى عليه وآله قد أوصى به، كما في قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وهو ما أكده حفيه الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام بقوله: "ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له".
وقد عهد المسلمون ما فعله النبي الأكرم صلوات الله تعالى عليه وآله، فعن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام أنه قال: "تصدق رسول الله (ص) بأموال جعلها وقفاً وكان ينفق منها على أضيافه"، وهو ما اعتمده أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام، فعن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام: "كان عبداً لله قد أوجب الله له الجنة، عمد إلى ماله فجعله صدقة مبتولة (أي منقطعة من ماله) تجري بعده للفقراء، وقال: اللهم إني جعلت هذا لتصرف النار عن وجهي، ولتصرف وجهي عن النار"، وهو ما جعل للمسلمين منهاجا يحتذى به، حتى صار الوقف مبدئا اسلاميا مهما، تعاهد المسلمون على صيانته والعمل به، فصارت لهم اوقاف للعبادة كالمساجد، وأخرى للعلم كالمدارس والجامعات والحوزات، وأخرى لرعاية الأيتام وكفالة المحتاجين، وأخرى لتطبيب المرضى، وأخرى ـ وليس أخيرة ـ لإيواء الفقراء والأيتام... الخ.
وللوقف تعريف لغوي وأخر اصطلاحي يتناوله المتشرعة، فلغويا يعرف الوقف بأنه الحبس، فإذا وقف فلان بيته؛ فأنه حبسه، وكذا وقف حصانه، إذ يحسبها؛ أي أنه حبس للعين وتسبل في منفعتها، بمنع تملكها من أحد الناس، وإباحة الانتفاع بها ضمن الجهة التي حددها الواقف.
أما اصطلاحا فقد تعددت المشارب في تعريفه، وأن تسالمت جميعها على ذات القصد الشرعي، ما أدى الى اشتراكهم في تبيان شروطه واركانه، وربما احكامه بدرجة أقل، وأجمع وأمنع تعريف للوقف فهو "عقد تكون لثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة"، أو أنه "حبس للعين النافعة على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنافع على الفقراء شريطة بقاء العين الموقوفة"، وربما رأى أخرون بأنه "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً" في حين يعرفه أخرون بأنه "حبس مالك أصل ماله المنتفع به مع بقائه زماناً على بر"، أو "حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته، وتصرف منافعه إلى البر تقرباً إلى الله تعالى"، وهي كما نرى؛ تعارف متشابهة تشترط أن يكون الموقوف عينا وأن يكون للمنفعة العامة وأن تبقى العين، وإن تنازل البعض عن بقاء العين بشرط البدلية، وحسب تعبيرهم بـ "بقاء بدلها"، حيث أن الاستبدال هو أن تتبدل العين الموقوفة بعين أخرى وبالتالي لمنفعة أخرى، وهو ما قد يندرج تحت عنوان فقهي آخر، إلا وهو "الاستثمار" الذي يديم المنفعة من الموقوفات بوجوه شتى؛ عدا فرصة التخلص من المتعطلة منها بتحويلها لأعيان صالحة نافعة بمقتضى هذا الاستبدال والاستثمار.
وفي كل الأحوال، فأن فقهاء الإسلام، ومن باب اشاعة المنافع بين المسلمين، وضمان مبادى التكافل الاجتماعي، فقد تساهلوا في الاستبدال والاستثمار، فيما لو كان الوقف خاصا، شريطة اشتراط الواقف بذلك والسماح به ووقف شروطه، دون السماح بالاستبدال إذا خرب الوقف وزالت منفعته ـ والحديث هنا على الوقف الخاص ـ، في حين أن الوقف العام، (ومثاله وقف المساجد والمدارس والطرقات)، فيشكل بيعها واستبدالها وإن خربت أو قربت من الضياع والتلف، والأصح أدامتها وضمان ديمومة منفعتها.
وللوقف أوجه كثيرة وعديدة، فمنها وقف المشيدات كدور للعبادة، ووقف الطرقات للمارة وأنارتها، الاهتمام بفقراء المسلمين وتزويج ايتامهم، إعداد موائد الإفطار للصائمين في شهر رمضان، سداد ديون المديونين، التكلف بعلاج المرضى المحوجين، الاهتمام بالمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، سقاية الحجيج والزائرين للمشاهد المشرفة واطعامها، بناء المدارس والقناطر.
وكان هذا ديدن المسلمين في اصقاع بلادهم، فهذا الرحالة الشهير ابن بطوطة يبين لنا في رحلته المعروفة ما وجده في العرق ومصر والمغرب والشام من اوقاف كبيرة وكثيرة وعامرة، سيما تلك التي تتعاهد العلم والتعليم، حتى أنه كان مبهورا بمستوى الرخاء الذي شهدته المدارس والكتاتيب في هذه المدن الإسلامية وكيف صيرت ـ هذه الأوقاف ـ من هذه المدن، مدنا حية تضج بالعلم والتطور.
وتكمن فلسفة الوقف والأوقاف في عدة نقاط، منها:
• اشاعة روح الكفلة ومبادئ التكافل الاجتماعي المبني على تقديم الميسور لما يُسر له، خدمة للعامة.
• ادامة المنافع وتصييرها مصدرا لإفادة المجتمع، وبالتالي بناءه بشكل قيمي هندسي مبني على مبدأ: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم".
• ثمة مبدأ اجتماعي يستبطنه العمل بالوقف، قوامه إدامة الحراك الاجتماعي الإيجابي.
• اقتصاديا، فأن للوقف منفعة كبرى، قوامها تعزيز الاستقلال والاكتفاء الذاتي، فوقف المدرسة الفلانية او المسجد الفلاني لأغراض تعليمية وعبادية، يستبطن اكتفاء ذاتيا في التعليم والتدريس والعبادة، فضلا عن تعضيد المهن النوعية ومد المجتمع بما يحتاج منها.
• كما يشكل الوقف ظاهرة إنسانية نبيلة، تدل على عمق النوازع الخيّرة في نفس الواقف، من خلال واهتمامه بمصالح عامة الناس، ولأجيال قادمة.