الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الإمام الكاظم عليه السلام سجين الرأي
23 رجب 1444هـ

مَهر الحرية السجون والمطاردة والعنف ضد دعاة الحقوق.. وهذا ديدن الطغاة بكل عصر ومصر، ثنائية الجلّاد والضحية منذ بدء الخليقة حينما قتل قابيل شقيقه هابيل، واستمر صراع الأنبياء والأولياء مع الحكّام من أجل الحرية والإصلاح.

لاريب إن محاربة العلويين من قبل الطغاة من بني أمية والعباس أدت إلى تراكم المسؤولية الربانية على عاتق الصفوة من آل محمد ومنهم إمامنا موسى الكاظم عليه السلام راهب بني هاشم، فجَور الزمان عليهم من خلال سياسة التنكيل العباسي وجبَت على الإمام الإعداد الروحي والتربوي والنفسي للقواعد الشعبية والنخبوية فتربّت الأجيال على الفضيلة والتقوى والورع والإيمان وتحصين المجتمع من الضلال والبغي والفساد، واتسعت مدرسة آل محمد لتستوعب شتى الشعوب ويدخل في إتباعها وتبني فقهها عشرات من المستبصرين من العلماء في الزمن المعاصر مثل التيجاني بتونس؛ وإدريس الحسيني- في المغرب؛ وأحمد الزاكي بالسودان؛ وأيمن المصري بمصر؛ والمحامي أحمد حسين يعقوب في الأردن، وأكثر من 600 من العلماء المستبصرين في مشارق الأرض ومغاربها... جميع هؤلاء نهلوا من علوم الإمام جعفر الصادق عليه السلام وأئمة الهدى... وتأثر مئات المفكرين من المسيحيين بمدرسة أهل البيت عليهم السلام مثل جورج جرداق وجرجي زيدان وانطوان بارا وسليمان كتاني، فضلاً عن ما كتبه روجيه غارودي وبرنادشو، عن أئمة الهدى وأعلام التقى.

يذكر محمود سيف (ينقل المؤرخون وعلماء الرجال أن عدد الرواة عن الإمام الكاظم قارب 638 راوياً، وأن عدد تلاميذه زادوا على مائتين وواحد وسبعين رجلاً.. كما بلغ عدد الفقهاء من أصحابه أكثر من ثلاثة وعشرين رجلا.. بينهم من تتلمذ على يدَي أبيه الإمام الصادق.. ثم صحبَهُ وأخذ عنه، ومنهم من امتدَّ به العمر ليأخذ عن ولده الامام الرضا عليه السلام).

وعشرات من العلماء كهشام بن الحكم؛ هشام بن أحمد الكوفي؛ علي بن سويد السائي؛ النظر بن سويد الصيرفي؛ عبد الله بن جندب البجلي؛ صفوان بن مهران الجمال؛ عبد الله بن يحيى الكاهي؛ محمد بن علي النعمان؛ الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين؛ علي بن يقطين.. كل هؤلاء نهلوا من التنشئة الروحية والعقائدية التي مارسها أئمتنا عليهم السلام منذ ولاية جدهم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وتنكُّر من تصدى للخلافة بحديث الغدير، وعدم الإلتزام بخط الإمامة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وهو نص صريح بالإمامة لكنهم عملوا لإصلاح الأمة.. والواقع الإجتماعي.. والأخلاقي.. والروحي..

وبعد محاولات معاوية بن ابي سفيان بالعمل لانحراف الأمة، ونظام التوريث، وتولية السفهاء، والطغاة، إستمر الأئمة بمنهجهم الجهادي، والاستشهادي، والعلمي.. وزالت دولة الظلم الأموي المنهار من داخل بيتهم ليتسنّم بنو العباس وهم يرفعون شعار يا لثارات الحسين وأهل البيت، ثم يحكموا بالنار والحديد كما اسلفنا بواقعة فخ، أو بسجن عشرات العلويين بطامورات وبناء الاسطوانات عليهم وهم أحياء!! وما سجن إمامنا إلا أحد جرائمهم.

لقد جابهَ الإمام الكاظم عليه السلام تلك المحنة من سجن البصرة (سنة كاملة) وكان لا يفتح عليه باب الحبس إلا في حالتين، حالة يخرج منها إلى الطهور وحالة يدخل فيها إليه الطعام.

ثم في بغداد نقل إلى ثلاثة سجون، وقد حُبس أولاً عند الفضل بن الربيع، ثم ازداد حنق هارون على الإمام لكثرة عبادته، ثم انتقل الى سجن الفضل بن يحيى ونُقل عن كرامات للإمام بسجنه فأخذ يوسع عليه بسجنه فنقل الجواسيس ما يجري فاشتاط هارون غضباً، والسجن الرابع هو سجن "السندي بن شاهك" وكان أشد على الإمام وقد ضيّق على الإمام فيه، قال بشار مولى السندي: كنتُ من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب، فدعاني السندي يوماً وقال لي: يا بشار، أريد أن ائتمنك على ما ائتمنني عليه هارون.

قلت: إذن لا أبقي فيه غاية.

قال: هذا موسى بن جعفر قد دفعتهُ إليك وقد وكلتك بحفظه، فجعله في دار دون حرمة ووكلني عليه، فكنت أقفل عليه عدة أقفال، فإذا مضيتُ في حاجة، وكلتُ امرأتي بالباب فلا تفارقه حتى أرجع...

تلك هي المأساة بين أربعة سجون لا لذنب بل لحقد أعمى تأصّل بنفوس شريرة، لكن التاريخ يرفع اولئك الاشرار ليضعهم بموضع الحاكم الذي وصلت الدولة في حكمه شرقاً وغرباً، ويجترُّ الكُتّاب والمناهج الدراسية تلك الأكاذيب بعدالة الخليفة وعظمته ويُكال المديح لمنجزه في المناهج التعليمية ليغرسوا الوهم بذهنية الأجيال، فيما حقيقة الأمر ان ذلك الحاكم قام بأبشع الأعمال من نشر الرذائل بقصره وامتلائه بالجواري والخمور فضلاً عن سجنه لراهب بني هاشم وشهادته مسموماً عن طريق الخليفة اللا عادل.. لكن شمس الحقيقة لن تغيّب فلطالما يُكشف أصحاب الحق وزمر الباطل، فما ينفع الناس هو الماكث في الأرض وما يضرهم فقاعة وهراء.

لقد دنّس الامويون والعباسيون هذا الدين القيّم، بتقريب الغلمان ونشر الفجور والخمور فيما عمدوا إلى قتل ونفي وسجن مناوئيهم من العترة المطهرة وشيعتهم.. لقد ضيقوا عليهم إقتصادياً فيما هم كانوا من المسرفين والمبددين للثروة.

يُروى عن اسراف زبيدة (حشدت زبيدة الأموال الطائلة لنفسها، وأطلقت العنان لملاذّها في صرف أموال المسلمين والبذخ بها، فقد اشترت غلاماً لعبد الله ابن موسى الهادي ضَرّاباً على العود بثلاثمائة الف درهم، وأمرت ان يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب، ثم ازداد بالدر حتى انها اتخذت الخفاف المرصعة بالجواهر تلبسها في قصرها...).

ويُروى ايضاً (دخل اشجع بن عمرو السلمي على محمد الأمين، وقد أجلس للتعليم، وكان عمره اربع سنين فقال فيه اشجع:

ملك أبوه وأمه من نبعة منها سراج الامة الوهاج

شربت بمكة في ربي بطائحها ماء النبوة ليس فيه مزاج

فأمرتْ له زبيدة بمائة الف درهم... ان هذه الأموال التي وُهبت لهذا الشاعر وغيره تمثل جانباً من الاسراف والهدر بأموال المسلمين.

إن تبديد المال العام هو المنهج (الأموي- العباسي) حيث الاستئثار بالمال أدى إلى حرمان طبقات المجتمع المختلفة من حقوقهم المشروعة، وقد سار بهذا المنهج الخلف غير الصالح، فنرى اليوم في عالمنا الاسلامي تبديد ثروات الشعوب من قبل الحكام والظلمة، فتحركت الشعوب المغلوبة على أمرها لتطيح بتلك الدكتاتوريات المعشعشة بقصورها الباذخة وتلقي بها إلى نفايات التاريخ.. فالوعي بالحقوق والدفاع عن الدين وقيمه هي مبادئ أئمتنا التي غرسوها في الذاكرة الحية لوجدان الشعوب والأمم.

نصرة الحق المتلألئ وخذلان الباطل الذاوي

ان عمر الإستبداد والجلّاد قصير؛ فمهما يتفرعن الطغاة تسحقهم إرادة الحق، وهذه السنّة الإلهية في محق الباطل ونصرة أصحاب الحق لأنهم يخلصون لربهم، ببذلهم مُهجهم وما يملكون لخالق السماوات والارضين، فيعوضهم الله بالنصر حتى ولو بعد حين..

كشف إمامنا الكاظم عليه السلام أقنعة وزيف هارون وفضح زبانيته وجلاديه.. هارون خسر التاريخ وخسر دينه؛ فيما كسب رهان صمود الايمان الحبيس في طامورات الحاكم؛ واليوم يتلألأ ضريح الإمام عنواناً للحق والتضحية، فما من زائر لمدينة السلام إلا ويلوذ ويتضرع ويدعو باب الله (الترياق المجرب) في الشدة والرخاء وقاضي الحوائج، وجامع الفضائل يطوف به المريدون والعاشقون لهذا الامام الهمام، الذي تحيط بقبره ملائكة الرحمن وتسجّل حسنات من يطوف ويلوذ بقبره الشريف.

ان الإمامة قيادة للأمة وأمان من أهواء الحكّام، لذلك كان الملاذ الآمن بإتباعهم رغم الخناق الذي فرضه الطغاة عليهم.


الباحث: صباح محسن كاظم