منح الإسلام المسجد، أهمية كبرى، ليس لكونه
مكانا للسجود وحسب ـ من الفعل سجد ـ إنما كونه نقلة نوعية في
ثقافة العرب يومذاك، فهو أشبه بمركز ثقافي عالمي يؤسس لنظريات
اجتماعية وأخلاقية وسياسية، فضلا عن العبادية، بدلا عما كان سائدا
يوم ذاك من الاجتماع والإلقاء في الأسواق والمحال
الشعرية.
وبقدر كون المسجد مكانا معدا لاستقبال عباد
الله سبحانه وتعالى، بدء من الصلاة وروحها السجود، ومرورا بالدعاء
والاستغفار، وانتهاءً بالاعتكاف كبرنامج تنموي وتهذيبي، إلا إن
توظيفات الإسلام للمساجد عبرت هذه الحدود السلوكية، وصارت المساجد
ملمحا من ملامح وحدة المسلمين، ومصدرا من مصادر توجيههم وشحن
هممهم بالتبليغ والإرشاد.
ومع إن تسميته بالمسجد، قد جاء من
فعل السجود، إلا أن مراد الإسلام من هذه التسمية أبعد من حركات
السجود الميكانيكية، فالسجود سلوك حركي يستبطن معان ومبان، أهمها
القبول بالعبودية للخالق والواحد الأحد، والحرية قبالة غيره مهما
كان، فضلا عن معنى المساواة الذي يستبطنه فعل السجود، والمتمثل في
كون الجميع ـ جميع من يدخل المسجد ـ سيرضخ لذات المستوى من
العبودية لخالقه مهما علا شأنه، خصوصا وإن العبد يكون أقرب ما
يكون لخالقه في وضعية السجود، بأعتبار أنه فعلا يدل على الطاعة
والخضوع والتذلل لله وحده، يمارسه العبد من وحي أيمانه بهذه
العبودية التي تحرره من عبودية غيره، مع إن فعل السجود لم يقتصر
على الإنسان فحسب، ـ وإن كان هو المبلغ بالفعل كونه المخلوق
الأعقل، والمكلف بالاستخلاف ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(سورة الإسراء ـ 77) ـ فقد
ذكر القرآن الكريم سجود غير الإنسان، بل كل المخلوقات، إذ يقول عز
من قال: (( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن
شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ
سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ(50))(سورة النحل ـ 48 ـ 50)، بغض النظر عن كونه
طواعية أم إكراها ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ))(سورة الرعد ـ 15).
والسجود كفعل عبادي، يتشكل حركيا
بوضع عتائق الوجه على التراب مع استقبال الأرض بالراحتين
والركبتين وأطراف القدمين، أي ما يسمى بالمساجد السبعة، تلحقه
حالة وجدانية تتمثل بالخشوع، مع صدارة لكلا الحالتين ـ الفعل
الحركي والحالة الوجدانية ـ بنية الخلوص للواحد الأحد، وكلما كان
السجود أطول، صار الخضوع والتذلل لله أشد، وصار الفرد فيه لله
أقرب، حتى يبان على وجه الساجد ملامح ذلك ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ
اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم
مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا))(سورة الفتح ـ 29)، وهو ما جعل أمير المؤمنين
علي عليه السلام يعظم من توسم بملامح السجود، قائلا في مورد
تفسيره للغسة السابقة: "إني لأكره للرجل أن ترى جبهته جلحاء ليس
فيها شيء من أثر السجود".
ومن هنا جاء الندب القرآني الى
بناء وعمارة المساجد ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ
أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ))(سورة التوبة ـ
18)، وإن كان المراد من مفهوم العمارة أعمق من العمارة المادية
بالبناءة والتشييد والزخرفة، فالجانب الأخر من العمارة هو عمارة
المساجد بالعبادة لله وحسن توحيده وتحقيق مفاهيم العبودية
له مطلقا، حتى ورد عن النبي الأكرم عليه وآله افضل الصلاة وأتم
التسليم في مورد جوابه لأبي ذر رضوان الله تعالى عليه حينما سأله
عن كيفية تعمير مساجد الله، قال عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع
فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل، ولا يشترى فيها ولا يباع،
واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا
نفسك"، وأتم حديثه بالقول: "يا أبا ذر إن الله تعالى يعطيك ما دمت
جالساً في المسجد بكل نفس تنفست درجة في الجنة، وتصلي عليك
الملائكة، وتكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات، وتمحى عنك عشر
سيئات".
ولعظمة المسجد، كلف الله سبحانه
وتعالى أنبياءه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعمارتها
بالتطهير، بقوله جل وعلا ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ))(سورة البقرة ـ125).
أما من جهة كون المسجد مركزا
ثقافيا، فمرده اجتماع الناس فيه في أوقات محددة ـ أوقات الصلوات
وايام الاعتكاف ومناسبات التبليغ كما كان يفعله النبي الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم ومن بعده خلفاءه المعصومين عليهم السلام ـ
جعل منه منبرا تبليغيا وإرشاديا، خصوصا وإن اجترار الحضور فيه
تحتم على الفرد حالة وجدانية مهيأة لسماع صوت الله سبحانه وتعالى،
فضلا عن أقامة الصلوات ذات البعد الاجتماعية كصلاة الجماعة ببعدها
المساواتي والمؤاخاتي، وصلاة الجمعة ببعدها الاجتماعي في الخطبة
الأولى، وبعدها السياسي في الخطبة الثانية.
كما أسس الإسلام ـ من خلال
المساجد ـ لثقافة ترويض النفس، والتقرب من الله سبحانه وتعالى
بشكل اقوى وأجلى، ليس على صعيد الصلاة وحسب، إنما من خلال طقوس
الاعتكاف التي تأخذ بعدا رياضيا ـ من الترويض ـ وتهذيبيا، قد لا
ينجح في غير محل المسجد.
من جهة أخرى، دأب المسلمون على
توظيف المسجد كمكان للتبليغ بالمهام ذات الشأنية المهمة، ومنها
مثلا الصلاة على الميت، توجيه العباد بالأمور الاجتماعية، وهو
بذلك يشكل مركزا للنشاطات الدينية والثقافية والاجتماعية، بأعتبار
أن المسجد مجمع الأمة ومكان الصلاة وقراءة القرآن الكريم والذكر
والتعلم فضلا عن الخطب التوجيهية والسياسة آنفة الذكر، ناهيك عن
كونه محلا لإقامة مراسم عقد الألوية والرايات، ومكانا لتأمير
الأمراء وتكليف المكلفين وتعريف العرفاء، ما جعله أشبه ما يكون
اليوم بديوان الحكومة، خصوصا بعد وضع دكة العدالة فيه، وصيرورته
دارا للقضاء والحكم في الخصومات بين الناس، حيث كان بذلك محلا
لأقامه الأمير والقاضي ودواوين الحكومة الإسلامية، وبالتالي
وجهتها السيادية والسياسية، خصوصا بعدما أسست المدن الإسلامية
وأخذها شكلا محوريا حول المسجد، من جهة العمران القائم على اتجاه
القبلة، ومن جهة المركزية التي تحوط البيوت والدواوين حوله.
وعلى هذا وذاك، صار المسجد لدى
المسلمين مكانا للتوجيه الروحي والمادي، وساحة للعبادة ومدرسة
للعلم وندوة للأدب، فضلا عن كونه البوتقة التي تصهر نفوس العباد
صوب بارئها بعد أن تجردها من علائق الدنيا وما يتمايز الأفراد به
بينهم ويفرقهم بفوارق الرتب والمناصب، كما أن المسجد مكانا تذوب
فيه حواجز التكبر مصانع الأنانية ومداخل الأهواء والنزوات، وهو
بذلك مكانا لإعادة ترميم الروح مما علق بها من خبث، حتى قال فيه
النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله: "المساجد سوق من أسواق
الآخرة، قراها المغفرة، وتحفتها الجنة".
كما قال أمير المؤمنين علي عليه
السلام في ذلك: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا
مستفادا في الله، أو علما مستطرفا، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة،
أو كلمة ترده عن ردى، أو يسمع كلمة تدله على هدى، أو يترك ذنبا
خشية أو حياء".
وقد ذكر الإمام جعفر الصادق عليه
السلام فضائل اجتماعية كثيرة للمسجد، حيث قال في مورد حديثه لفضل:
"يا فضل لا يأتي المسجد من كل قبيلة ألا وافدها، ومن كل أهل بيت
إلا نجيبها، يا فضل؛ لا يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث: إما
دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة وإما دعاء يدعو به فيصرف الله
عنه بلاء الدنيا، وإما أخ يستفيده في الله عز وجل".
ظافرة عبد الواحد