الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


العصرية المواكِبة والحداثة المأمونة في الفقه الإسلامي
3 جُمادى الآخرة 1443هـ

من مهام رسالة الإسلام التي بُعث بها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه واله؛ تنظيمها حياة الناس على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعة؛ وفق قوانين وتشريعات حكيمة، وكانت البداية في مجتمع بسيط العيش؛ السمة الغالبة فيه هي البداوة والجاهلية.
ويتطلب هذا التنظيم تشريعات تُبين حدود الله في الحلال والحرام والأوامر والنواهي، ليطمئن الناس اليها على صحيح مسيرتهم والتزامهم بتلك الحدود وعن علم وبينة، بما يحقق منفعتهم الشخصية والجماعية في الدنيا والآخرة، والقصد من كل ذلك، هو بناء الإنسان المثالي والمجتمع السليم الذي يعتبر الهدف الأسمى للدين الإسلامي.
وقد تبنى الفقه الإسلامي هذه المهمة كاختصاص، ومن ذلك مثلا تشريعه القوانين المنظمة لذلك والتي تعتمد بشكل أساسي على فهم القرآن والسنة الصحيحة.
وقد كان أول المتصدين لهذه المهمة هو الرسول الأعظم صلى الله عليه واله كونه حامل الرسالة، والمأمور بتبليغها وبيانها للناس كافة ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل-44(، وقد أشهد صلى الله عليه وآله الناس على تمام تبليغه وبيانه في آخر أيامه ـ في حجة الوداع ـ بعدما أكمل الله الدين وأتم النعمة على عباده ((..........الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا........)) (المائدة-3) ليكون هو المنظم الأول في بداية عهد الإسلام، بتعامل يسير مع كل ما يدور من أحداث في هذا المجتمع؛ مع استيعاب لكل متطلبات المجتمع التي احتاجت موقفا تشريعيا.
لكن ما واجه الفقه لاحقا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله؛ هو التطور الطبيعي للمجتمع المسلم؛ كاتساق منه مع حركة التأريخ؛ إضافة لزيادة الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية بعد الفتوحات الكبيرة التي فرضت تغييراً كبيرا في نمط الحياة بسبب زيادة النفوس وما تطلبه من استحداث قواعد للمعاملات بينهم‘ فضلا عن النقلة الكبيرة للمجتمع الإسلامي من حياة البداوة الى حياة المدنية والتحضر؛ لتزداد الحاجة بعد ذلك لتشريعات جديدة تواكب العصر الجديد بحيث تبين موقف الدين من المستجدات وما ورد عليها من إشكالات يصعب على العوام معرفة الموقف منها.

الفقه والحداثة
من أدلة بقاء وديمومة الدين الإسلامي أن فقهه حي يواكب التطورات الهائلة والمتسارعة في حياة البشرية وعلى مر العصور والتي يضع فيها الحلول لكل ما يستجد من مستحدثات وعلى جميع الأصعدة بحكم التطور المتسارع في حياة الفرد والمجتمع؛ ولكونه عالمي التوجه؛ كانت المفاهيم التي ينطلق منها ملائمة ومشتركة لكل البشرية ولكل أطوار تقدمهما، لذلك اعتمد الفقه الإسلامي بالأصل على مصدرين أساسيين في تشريعه هما الكتاب الذي جاء للناس كافة ((......وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل-44) والسنة التي أُمر الناس بالأخذ منها ((.........وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتقوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر-7) حيث مكن هذين المصدرين المرجع المفتي إضافة لاجتهاده من إسقاط المفاهيم الكلية الجامعة على المصاديق المستجدة ليصل إلى الفتيا الأسلم والأصح للمجتمع، بما لا يخالف أصول التشريع ولتجعل الفتيا في مأمن من الخطأ والزلل إن حصل، مثال ذلك كان تحريم الخمر لعلة إذهاب العقل بحيث أن سلوك الإنسان يكون متأثرا بالمادة المسكرة فيه، لكن اليوم استجدت مواد أخرى تعطي نفس النتيجة ـ إذهاب العقل ـ كالحبوب المخدرة والحشيش وغيرها؛ من هنا شُرع بتحريمها توافقا مع علة تحريم الخمر.
وبهذا المثال وغيره يكون الفقه الإسلامي متحركا غير جامد، يساير كل مستجد؛ ليجد الحلول الشرعية في كيفية التعاطي معه، أما الأمور التي لا يجد لها حلا من الكتاب ولا من السنة؛ فتلك تعتبر ضمن منطقة الفراغ التشريعي التي يجتهد فيها المجتهد بعقله وعلى ضوء المعطيات المتوافرة لديه بما لا يخالف أصول الفقه المعتمدة، ليجد الحلول المناسبة لها، وهذا بدوره يشكل دالة أخرى تُظهر أن مجال تحريك العقل موجود في التشريع الإسلامي بما يلائم الغاية العامة من وجوده؛ ساعد بذلك فتح باب الاجتهاد، ليطمئن المسلمين في ذلك، ثابتين على دينهم؛ يشعرون براحة الضمير من أنهم على هدى من أمرهم كلما تعاملوا مع أي مستجد من عصر الحداثة.

 

العلوية فاطمة الجابري