الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


طفولة الحضارات وشبابها وهرمها... تتبع لمنحنيات السقوط الحضاري للأمم
22 جمادى الاول 1442هـ
ما أنفك القرآن الكريم عن إدراك ومتابعة كل حيثيات الوجود، وتتبع متغيرات الحياة، ومن ذلك بالطبع تتبعه للسنن المجتمعية ومنحنياتها الزمنية، بدء من ايجادها وانتهاء بفنائها.
وقد تناول القرآن الكريم هذه المنحنيات بشكل علمي رصين، ما يجعل المتدبر للقرآن الكريم مؤمنا بأن هنالك عدة أسباب، اثنولوجية وديموغرافية واقتصادية وربما اقتصادية، تسهم في ولادة الأمة ـ أي أمة ـ ومن ثم قيامها، مرورا ببروزها وشموخها، وانتهاء بأفولها، مع اكتشافه ـ المتتبع للقرآن الكريم ـ للعوامل التي يمكن لها أن تديم هذه الأمم لفترة طويلة أو تقوضها بمدة وجيزة، وبالتالي فأن ثمة أدواء وأمراض قد تتناوب على هذه الأمة أو تلك، في فترة صباها او مراهقتها او شبابها، بل وحتى شيخوختها، وهرمها وبالتالي موتها وجوديا.
وعلى هذا وذاك، فثمة دواعي، بمثابة أسباب وجود هذه الأمة، وأخرى لازمة لبقائها وثالثة لقهرها وفناءها. 
 ولأن مقالتنا هذه مخصصة لتتبع السقوط الحضاري للأمم، فأننا سنكتفي بإيراد أسباب افول الأمم ومحوها، بدء من الظلم الاجتماعي بين افراد الأمة الواحدة وانتهاء بظل الأمم الأخرى، ومن ثم مستنقع الفرقة والتخالف فيما بينهم، مرورا بترفها المادي وانتهاء بكفرانها بالقيم السماوية والمجتمعية.

الظلم المجتمعي:
تكمن كارثية الظلم المجتمعي بين أفراد الأمة الواحدة في كونه هدما لمنظومة العدالة المجتمعية، وهو ما سينعكس سلبا على الأفراد فيما بينهم داخل الأسرة الواحدة.
ويمكن تمثيل ذلك الظلم بأن هم كل فرد في هذه الأمة سينحاز بشكل مفرط صوب مصالحه الشخصية فقط، حتى لو كانت على حساب الأخرين، ((وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23)))(ص ـ21 ـ23).
وربما تمثل هذا الظلم؛ بشكل جماعي وليس فردي، حيث الفرقة والعنصرية، بعيدا عن الحق، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ))(الحجرات ـ 11)، ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ))(الحجرات ـ9).
وفي هذا السبيل، أوصى نبي الرحمة محمد صلوات الله عليه وآله قائلا: "كلا؛ والله لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهوُنّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يدي الظالم، ولتأطرُنّه على الحقّ أطراً، ولتقصرُنّه على الحقّ قصراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننّكم كما لعنهم"، كما أكد ذلك امير المؤمنين علي عليه السلام بالقول: "ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم؛ فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد".
وخلاصة القول، أن مآل الظلم المجتمعي، مجتمعا هرما متقطع الأواصر، ضعيف البنيان، بل وبمثابة اللقمة السهلة لأي عدوان خارجي، حتى لو كان صغيرا، وبالتالي هلاك الأمة، حيث يقول الإمام علي عليه السلام في هذا الصدد: "الظلم يزلّ القدم، ويسلب النعم، ويهلك الأمم".
وقد يتمثل الظلم المجتمعي بشكل أكثر من تحكم الأفراد، خصوصا فيما أذا كانت المجتمعات تتصرف على ما تنتهجه لها حكامها، بدء من سياسة التجويع التي تمارسها الأمم والدول القوية حيال الضعيفة منها، مرورا بسياسة الحرب النفسية وحروب التطهير العرقي والتمايز الديني والمذهبي وغير ذلك مما عاد السمة الأبرز للدول المتقدمة ضد الضعيفة. 

الفرقة والتخالف:
أما السبب الثاني للسقوط الحضاري لهذه الأمة أو تلك، فهو تهاوي افرادها في مستنقع الفرقة والتخالف فيما بينهم دون وجه حق، وبالتالي فأنها ـ الفرقة ـ معول هدام يضرب برأس الأمة ويفتت وحدتها.
وتكمن صعوبة الفرقة في إنها ستحيل الأمة الواحدة الى كونتونات صغيرة ومتناحرة يأكل القوي منها الضعيف، ويتفتت الضعيف القوي باستنزاف قدراته. 
وهذا ما لم يفت القرآن الكريم، من خلال حثه على وحدة الكلمة والصف، والتكاتف المجتمعي والابتعاد عن الخصومات المجتمعية ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))(الأنفال ـ46).
كما أكد القرآن الكريم على تجنب الفرقة والاختلاف المؤدي، لها خصوصا بعد أن بيّن السبيل القويم للضبط المجتمعي ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))(آل عمران ـ105)، مع أن أسس لمفهوم ثابت يكمن في أن الاختلاف أنما هو نقطة الشروع أتجاه الخلاف، وبالتالي الفرقة المؤدية للهلاك، كما قال ذلك سيد الإنسانية محمد الكريم صلوات الله عليه وآله "لا تختلفوا؛ فإنّ مَن كان قبلكم اختلفوا؛ فهلكوا"، وهو ما لم يفت ربيب النبي، الإمام علي عليهما السلام، حين بيّن ذلك في مورد تنظيم دولته قائلا :"وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم؛ حيث وقعت الفُرقة وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعّبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين"، وقوله عليه السلام "فاعتبروا بحال وِلد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرّقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا، إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر، أذلّ الأمم داراً، وأجدبهم قراراً".

الترف والفسوق والبطر:
أما السبب الثالث في نكوص الأمم ومجتمعاتها، فيكمن في ترف سلاطينها وعدم اعتدالهم في معايشهم! قبالة الفقراء من أبناء جلدتهم، خصوصا وأن هؤلاء المترفين سيكونون ـ بجحودهم وكفرانهم للنعم ـ محل بلاء السماء ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا))(الأسراء ـ16)، خصوصا اذا ما ابتعدت هذه المجتمعات عن صون النعم الألهية بالشكران ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ))(النحل ـ112).
ويستتبع الترف المجتمعي، طغيانا وبطرا، كملازمة للجاحدين ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ))(القصص ـ58)، ناهيك عما يحصل للمترفين ـ بعد فسوقهم ـ كعقاب ألهي ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا))(الإسراء ـ16)، ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ  (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)  فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)  فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)  إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16))(الفجر ـ6ـ16).
كل ذلك البلاء الإلهي؛ أنما كان بسبب تلازم الطغيان والإفساد في الأرض مما يفعله عادة المترفون، حيث يؤكد ذلك النبي الأكرم محمد صلوات الله عليه وآله "فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".

الكفران بقيم السماء:
أما أخر أسباب افول الأمم وسقوط الحضارات وتهاوي المجتمعات، فهو كفرانها بالقيم السماوية والمجتمعية باعتبارها سننا تكوينية وتشريعية تضبط بوصلة التعامل مع الخالق ومع المخلوقين، خصوصا تلك الضوابط التي ضبطتها الرسالات السماوية من خلال رسل الله وحملة بريده للناس، ومن ذلك مثلا قيم العبودية لله والأيمان به دون شريك ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ))(القصص ـ59)، وهو ذات ما بينه النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله حين قال : "إذا غضب الله - عزّ وجلّ - على أمة ولم ينزل بها العذاب: غلت أسعارُها، وقصُرت أعمارُها، ولم تربح تجّارُها، ولم تُزكَّ ثمارُها، ولم تغزر أنهارُها، وحبس الله عنها أمطارَها، وسلّط الله عليها شرارَها".