الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


لماذا حرم الله الربا ؟
18 جمادى الاول 1443هـ

يتساءل غير المسلم، عن سبب تحريم الإسلام للمراباة، وهي بظنهم، تعامل اقتصادي كغيره من التعاملات، يستبطن المرابحة وحسب، ولا مدخلية للدين والتدين في ذلك، بل ويمعنون ـ غير المسلمين ـ فيما أبعد من ذلك، بضرورة عدم تدخل الدين في هكذا تعاملات حياتية، وضرورة قصره على العبادات وحسب. 
في حين ينظر الإسلام للربا من وجهة نظر أخر، بل ومن عدة زوايا، فمرة أخلاقية، وأخرى اقتصادية، فضلا عن المعاملاتية باعتبارها قريب العباداتية مما يسلكه المسلم من عبادات ومعاملات.
وقد عرج القرآن الكريم كثيرا على موضوعة الربا، ومنحها ما تستحق من أهمية، للدواعي والأسباب آنفة الذكر، ومما بينه القرآن الكريم بخصوص الربا قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))(سورة البقرة ـ 275)، وقوله تعالى في مورد آخر، ((وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))(سورة النساء ـ 161)، وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ279))(سورة البقرة ـ 278 ـ 279)، وقوله تعالى: ((وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ))(سورة الروم ـ 39). 
ولأن القرآن الكريم كتاب هداية، ((هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ))(سورة آل عمران ـ 138)، يخرج الناس من ظلماتهم الى نور الله، ((كِتَابٌ أنزَلْنَاهُ إلَيْك لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى
صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ))(سورة النحل ـ 102)، بل وأن فيه تفصيلا لك شيء، ((وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ))(سورة النحل ـ 89)، وإنه يغادر صغيرة ولا كبيرة، ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))(سورة الكهف ـ 49)، ولا يمر على كبريات المواضيع إلا بعد أن يشبعها نظما وتشريعا، بل ويسلط الضوء على ما لا يمكن استقراءه بعقولنا القاصرة، ومن ذلك موضوع الربا، كما بيناه في الآيات الشريفات آنفات الذكر. 
وتكمن علة تحريم الربا للأضرار الكارثية التي يمكن أن تلحق بالاقتصاد الإسلامي، والمتمثل في تكديس الأموال بيد اشخاص دون غيرهم، وهو ما يؤدي الى افقارهم وايقاعهم في دوامة الديون الربحية التي تستهل اموالهم، في حين يتمتع المرابي بتكدس الأموال دون عناء او جهد يُذكر.
ووفقا لهذه الآلية، سيؤثر الربا على الحركة الإنتاجية، ويصير من السوق بيئة طبقية يحكم فيها المرابي على الباقين بدون رحمة او شفقة او وازع من دين أو ضمير، في حين ان الأصل أن الحركة الاقتصادية تحتكم الى البيع والشراء، المبتنيين على الإنتاج والاستهلاك، وهو ما لا يتسق والحركة الربوية المقتصرة على منافع اصحاب الأموال الطائلة على حساب المعوزين الذي يرضخون لشروط المرابي مضطرين بينما يوسع من دائرة الفقر ويزيد من أعداد الفقراء.. هذا من الوجهة الاقتصادية والحركة النقدية في السوق. 
أما من الوجهة الأخلاقية، فالربا هو أشد ما يوأد المعروف، ويصير من التعاملات الإنسانية للناس مجرد ارقام، تحتكم الى ضمير المرابي الذي لا يقبل إلا الربح، فالربا يحد من التعطف الإنساني مع المحتاج، بل ويستغله أبشع استغلال، فلا قرضة حسة لوجه الله سبحانه وتعالى، ولا ثمة جانب أنساني يجبر الميسور الى قرض المحتاج، وهو ما يصير من رؤوس الأموال مكدسة عند الفسقة ممن لا ضمير لهم ولا هم سوى اشباع رغباتهم الطامعة، وهو ما يؤدي بالضرورة الى تسافل المجتمع وافساده افراده وانعدام الرحمة والشفقة بين الناس، وهو ما لا يريد ه الشارع الإسلامي المقدس للمجتمع المسلم. 
وإمعانا في تحريم الربا، وأبعاد المسلمين عنه، أكد نبي الإنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى عليه وآله على حرمة الربا، كما في قوله: "شَرُّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا"، وقوله صلوات الله تعالى عليه وآله: "لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ".
وقد علل الإمام علي بن موسى الرضا عليه الصلاة والسلام التعاملات الربوية كما تقره النظم الاقتصادية اليوم، مع تقدمه عليها بأكثر من الف سنة، ومما قاله عليه الصلاة والسلام في علة ذلك: ".... وعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا لِمَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهُ وَ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسَادِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَرَى الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ كَانَ ثَمَنُ الدِّرْهَمِ دِرْهَماً وَ ثَمَنُ الْآخَرِ بَاطِلًا، فَبَيْعُ الرِّبَا وَ شِرَاؤُهُ وَكْسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْمُشْتَرِي وَ عَلَى الْبَائِعِ‏،  فَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى الْعِبَادِ الرِّبَا لِعِلَّةِ فَسَادِ الْأَمْوَالِ، كَمَا حَظَرَ عَلَى السَّفِيهِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَالُهُ لِمَا يُتَخَوَّفُ عَلَيْهِ مِنْ إِفْسَادِهِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ، فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الرِّبَا........".
كما بين عليه الصلاة والسلام وجه الحرمة في ربا النسيئة، فقال: "... وعِلَّةُ تَحْرِيمِ‏ الرِّبَا بِالنِّسْيَةِ لِعِلَّةِ ذَهَابِ الْمَعْرُوفِ وَ تَلَفِ الْأَمْوَالِ وَ رَغْبَةِ النَّاسِ فِي الرِّبْحِ وَ تَرْكِهِمُ الْقَرْضَ وَ الْفَرْضَ وَ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ، وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَ الظُّلْمِ وَ فَنَاءِ الْأَمْوَالِ".
كما أكد ذلك الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه الصلاة والسلام في مورد أجابته عن سؤال توجه به هشام بن الحكم الكندي البغدادي عن علة تحريم الربا، فقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهُ لَوْ كَانَ الرِّبَا حَلَالًا لَتَرَكَ النَّاسُ التِّجَارَاتِ وَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَحَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَفِرَّ النَّاسُ مِنَ الْحَرَامِ إِلَى الْحَلَالِ وَ إِلَى التِّجَارَاتِ وَ إِلَى الْبَيْعِ وَ الشِّرَاءِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَرْضِ".

 

فاطمة الجابري