تختلف الزعامة السياسية في
الإسلام عن الزعامات السياسية الحاضرة أو التي مرت بها البشرية
قديما، منذ أن عرفت فيها النظام الذي ينظم ويقنن العقد الاجتماعي،
والحاجة فيه للزعيم السياسي أو الروحي الذي يقودها، إذ أن
الاختلاف مرده التباينات بينها، وأولها هو اختلاف المنهج
بين الطرفين، والذي يترتب عليه طريقة اختيار الزعيم الروحي
والسياسي، إذ يعتمد الإسلام على منهج هداية رباني يتداخل فيه
البعد السياسي مع البعد الديني، حتى تتعدى حدوده وغاياته عالم
الدنيا لعالم الآخرة ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)) (النساء - 57)،
على العكس من النظريات السياسية الوضعية التي همها الدنيا، ما
يقودها للبحث في كيفية تسيس أمور شعوبها وفق مصالح الدنيا فقط،
دون التفكير بالعالم الأخروي، لأنه ليس من اختصاصها أصلا، ولا
مجال لها ان تشغل نفسها به أبدا، بحكم أنها أسيرة صناعة عقول
بشرية محدودة الأفق، تؤسس وتبني مناهجها وبرامجها السياسية لهذا
العالم الدنيوي الذي تعيشه فقط، وتنسحب هذه الصبغة الدنيوية على
الزعيم السياسي القائم بالأمر، والمناطة به مهمة الزعامة، إذ أن
قيادته تكون محصورة في تسيير أمور الناس والاهتمام بشؤونهم العامة
في هذا العالم ـ عالم الدنيا ـ حصرا، ولا تتعداه أبدا، ليكون
منسجما ومتناغما مع المنهج الدنيوي الذي اختير
لزعامته.
ولأجل ذلك، وتأسيسا على هذا
الاختلاف الظاهر، كان للجعل الإلهي في الإسلام ـ في اختيار
الزعامة الروحية والسياسية ـ شرط أساسي فيمن يتولى أمور المسلمين،
سواء كانت هذه الزعامة بمقام النبوة أو بمقام الإمامة، وكلاهما
جعل إلهي في الصفوة من العباد ((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) (البقرة-124)، حيث أن النبي إبراهيم عليه
السلام كان زعيما بالنبوة، ومن ثم جاءه مقام الإمامة ليضاف مقاما
آخر له في الزعامة ولعظم هذا المقام طلبه لذريته، والغاية من هذين
الجعلين هو عصمة الزعيم الديني والسياسي من كل خطأ أو زلل يصيبه
في تسيسه أمور الناس، كونه ينساق في عمله وفق منهج ورؤية سماويين،
خصوصا وانهما يستندان إلى العصمة، الذي يمثل صراط الحق المستقيم
((الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا )) (الكهف-1) والمعد مسبقا من العلي
القدير لحياة الناس في الدنيا والآخرة.
وتبعا لما تقدم، أصبحت طاعة هؤلاء
الزعماء الروحيين السياسيين بشكل مطلق، وبلا قيد يذكر، أمرا ملزما
أكده القرآن الكريم وبنص جلي يأتي متسقا مع عصمتهم، كونهم اختيار
إلهي ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ...........))
(النساء-59).
وقد يتبادر للذهن، طلب بيان عمن
تجسدت فيه هذه الزعامة الدينية والسياسية في الإسلام، نجد ان
السيرة تقول إنها تجسدت في النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى
الله عليه واله، حيث كان الزعيم الأول الذي أسس دولة الإسلام في
المدينة المنورة ومن بعده صارت الزعامة السياسية والدينية جعلا في
الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، ابتداء من أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام الذي أسس دولته وعاصمتها الكوفة، وانتهاء
بالإمام الثاني عشر عجل الله فرجه الشريف الذي بزعامته ستتحقق
دولة العدل الإلهي الموعودة.
ويمكننا ان نؤشر اختلافا آخرا في
الغايات بين الإسلام والنظم السياسية الوضعية؛ بمختلف مسمياتها،
إذ أن غاية الإسلام؛ سعادة الإنسان أولا؛ كفرد أو كمجتمع دون
النظر إلى منافع سياسية أو اقتصادية أو أمنية تكون على حسابه أو
على حساب المجتمع الذي هو جزء منه، لأن الإسلام ينظر بعين
المساواة للجميع، لذلك كان اختيار الزعامات فيه يجري ضمن منظومة
التخطيط الإلهي في نشر العدل والمساواة بين الناس دون النظر لأي
اعتبارات أخرى، كالعمل لحساب فئة على فئة أخرى أو لحساب زعيم
وحزبه على اخر، كما في النظم الرأسمالية الحالية، والنظم
الدكتاتورية العسكرية التي تتسلط على رقاب الناس بالانقلابات،
وأنظمة الحزب الواحد التي تثري طبقة الحزب الحاكم على حساب الشعب
المسكين، وهذا كله نتاج التفكير الأناني بالذات أو بالطبقة
الحاكمة والمتمثل بسوء الإدارة من قبل الزعامة السياسية بالقهر
دون النظر لبقية الشعب على أساس العدل والمساواة، ما جعل الإسلام
يأخذ كل ذلك بعين الاعتبار.
كذلك تختلف السياسية الإسلامية عن
النظم السياسية الوضعية بالوسائل في تنفيذ برامجها، إذ أن الزعامة
السياسية والدينية في افسلام تكون للمعصوم الذي يتوسل بالوسائل
الأخلاقية والاعتبارية التي يحملها ذلك المنهج ليكون أمينا على
تنفيذها بحذافيرها دون النظر لمصلحة ذاتية أو طبقية قد تتطلب
ابتعادا عن النهج الأخلاقي للإسلام، كما في بعض النظريات السياسية
الوضعية التي تعتمد المذهب المكيافلي الذي يبرر الوسيلة ـ أي
وسيلة كانت ـ لبلوغ غاياتها، وقد عملت بهذا المبدأ كل نظم
السياسية الوضعية وذلك لقصور في أفقها السياسي وابتعادها عن
الأخلاق في سياستها، كونها تفكر بشكل أناني مرحلي ينقضي بتحقيق
منفعة الحاكم وتثبيت أركان حكمه فقط، وهو الهدف الأسمى المرجو
عندها، إذ لا يهمها أخلاقية الوسائل في بلوغ أهدافها، ما زاد من
وتيرة الاضطرابات والانقلابات والحروب في العالم وعلى مر التاريخ
القديم والحديث، وهذا خير شاهد على عدم أخلاقية الوسائل في بلوغ
الغايات، برغم أن هذه الأنظمة المتسلطة كانت ترفع شعارات أخلاقية
سلمية، للتضليل والتعمية على الناس، الا أن زيفها يظهر بأول
اختبار عملي لها، حيث ترتكب أبشع الجرائم في القتل والحصار
والحروب لأجل بلوغ أهدافها.
كما لا يفوتنا الإشارة للتفاوت
الواضح بين المنهج الإسلامي في الزعامة السياسية حيث الزعيم
المجعول إلهيا ويسير وفقا لمنهج أخلاقي سنامه المساواة
والعدل الربانيين بين الناس، بالاستناد على الدستور الإسلامي
(القرآن الكريم)، وبين كل من يدعي أن حكومته إسلامية، مع انها قد
تقترب في بعض أهدافها من نهج الإسلام، لكنها لا تمثله بشكل مطلق،
إذ أن الزعامة في هذه الدول هي من اختيار بشري، وأن تعددت طرقه
وألوانه، لذلك لا يمثل هذا الزعيم، الدولة الإسلامية الحقة
بمنهجها وزعامتها، باستثناء زعامة الرسول الكريم صلى الله عليه
واله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في فترة حكمه
بالكوفة وباقي الأئمة المعصومين در تعلق الأمر بنظرتهم لتسويس
البلاد والعباد، أما باقي الحكومات فمهما ادعت من أن حكومتها
إسلامية وزعيمها إسلامي فهي محاولات ليس الا، تقترب من خلالها ـ
وربما تبتعد ـ عن النهج الإسلامي، وهذا ليس تنكرا منا لهذه
الحكومات؛ فقد تجد عندها الكثير من المزايا التي تحاول من خلال
الاتساق مع النهج الإسلامي ولكنها لا تمثل دولة الإسلام كما
أرادها الله؛ لاعتبارات عدة منها ضيق أفق البرامج والنظريات
السياسية لديها، ما يصعب احتسباها على السياسية الإسلامية، لما قد
يصاحبها من فشل او قصر نظر أو سوء تخطيط من مُنظرها أو الزعيم
المنفذ لها، والإسلام بعيد ـ في هذه الحالة ـ عن برامجها
والمنفذين لها، ولنا في التأريخ شواهد كثيرة في أحزاب وتجمعات
وأحلاف اعتنقت أفكارا إسلامية وفشل زعماؤها في إظهار وجه الإسلام
الحقيقي ففشلت ثم اندثرت تبعا لعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية
مغايرة لتنظيراتها وتوجهاتها أو كانت مخالفة لحساباتها ، وبالتالي
لم تقو على تداركها فانهارت.
عهد الإمام علي بن ابي
طالب الى واليه على مصر.
إن الزعامة الروحية والسياسية في
الإسلام هي جعل إلهي في الصفوة من العباد، وأنهم ـ الزعماء ـ
معصومون بالإرادة الإلهية، حيث تكليفهم الشرعي يفرض ذلك، إذ أن
النهج الإسلامي لا يمكن لغير المعصوم أن يكون ممثلا له، ومنه يمكن
للمعصوم أن يعين زعامات ممن هو يزكيهم ويعتقد فيهم الإخلاص لله
وللدين، فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو
الزعيم السياسي والروحي المجعول وهو خير من مثل الزعامة الإسلامية
بعد الرسول الكريم صلى الله عليه واله بمقام الإمامة عدا أنه مارس
الزعامة السياسية متأخرا بعد انقلاب السقيفة الأولى وسقيفة الشورى
الستة، ولكي نبرهن على اتساق هذه الزعامة المعصومة مع النهج
المعصوم نورد بعضا من موارد رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى
واليه على مصر مالك الأشتر حيث اعتمدت كوثيقة رسمية في الأمم
المتحدة قدر تعلق الأمر بحقوق الإنسان، وقد كانت ـ حقا ـ دستورا
متكاملا عالج كل الأمور الإنسانية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية، ما جعلنا ننمذجها لبحثنا هذا، ونأخذ منها هذه
المقتطفات لنلقي بعض الضوء على مضامينها.
1. انسانيا... وبما يخص صلاح الذات، نجد ان
الإمام علي عليه السلام يوصي واليه الأشتر، بـ "تقوى الله وإيثار
طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد
أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا من جحدها وإضاعتها وأن ينصر الله
سبحانه بيده وقلبه ولسانه فانه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره
وإعزاز من اعزه".
2. أما
في جانب اهتمامه بالرعية وحسن السلوك معهم فقد أوصى الأمير واليه
بالقول:" اشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا
تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فانهم صنفان إما أخ لك في
الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل
ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ.
3. كما
وجه الإمام علي عليه السلام، الأشتر بإنصافه الناس وإعطاء كل ذي
حق حقه:" ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك
تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة
والزم كلا منهم ما الزم نفسه".
4. كما
الزمه بالعمل بمبدأ الشورى، من خلال مشاورة العلماء والحكماء من
علية القوم لإصلاح أمور الرعية : "وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة
الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به
الناس قبلك".
5. كما
عرفه بطبقات المجتمع من خلال بيان تشابك العلاقة ما بينهم، وأنها
لا تصلح إلا كذلك، حيث قال له: "واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح
بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله ومنها
كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق
ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها
التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات
والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه
أو سنة نبيه صلى الله عليه واله عهدا منه محفوظا فالجنود بإذن
الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم
الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من
الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم
ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث
من القضاء والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من
المنافع ويأتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولا قوام لهم جميعا
إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه
من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم،
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم
ومعونتهم وفي الله لكل سعة ولكل على الوالي حق بقدر ما
يصلحه".
6. أما
وصيته في الجيش فكانت:" فول من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله
وإمامك وأنقاهم جيبا وأفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى
العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا
يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات
الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة
فانهم جماع من الكرم وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد
الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن
لطفا تعاهدتهم به وان قل فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن
الظن بك ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فان لليسير
من لطفك موضعا ينتفعون به وللجسيم موقعا لا يستغنون
عنه".
7. أما
في القضاء فكانت وصيته:" ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في
نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة
ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا
يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج
وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند
اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل.
ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه
حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من
خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا
فان هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى
ويطلب به الدنيا".
8. أما
في الجانب الاقتصادي فقد أشار عليه السلام الى مالك الأشتر
بالقول: "وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم
صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال
على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في
استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير
عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا فان
شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحاله ارض اغتمرها غرق
أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن
عليك شيء خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة
بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة
العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة
منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما
إذا عولت فيه عليهم من بعد اجتملوه طيبة أنفسهم به فان العمران
محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز
أهلها لإشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة
انتفاعهم بالعبر".
9. أما
في المجال الاجتماعي ورعاية الناس المحتاجين فأوصه بالقول:" واجعل
لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما
فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك
وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه واله يقول في غير موطن لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه
من القوي غير متعتع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق
والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته.
الإعطاء والمنع وأعط ما أعطيت هنيئا وامنع في إجمال
وإعذار".
10. كما أوصى عليه السلام الى السلام والمصالحة مع
العدو بشرط أن يكون في هذا الصلح رضا لله، حيث يقول :"ولا تدفن
صلحا دعاك إليه عدوك، لله فيه رضى، فان في الصلح دعة لجنودك
وإراحة من همومك وأمنا لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد
صلحه فان العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم وأتهم في ذلك حسن
النية وأن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك
بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فانه ليس
من فرائض الله شيء الناس اشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت
آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم
دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرن بذمتك ولا
تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي
وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته وحريما
يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره فلا إدغال ولا مدالسة ولا
خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل ولا تعولن على لحن القول
بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى
طلب انفساخه بغير الحق فان صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل
عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيطه بك من الله طلبة لا
تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك.
11. كما أكد الإمام علي عليه السلام في عهده
للأشهر على كرهه لسفك الدماء بغير حق وتحذيره واليه من ذلك إذ قال
:" وإياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا
اعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير
حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من
الدماء يوم القيامة فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فان ذلك مما
يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في
قتل العمد لأن فيه قود البدن وأن ابتليت بخطأ وإفراط عليك سوطك أو
سيفك أو يدك بالعقوبة فان في الوكزة فما فوقها مقتله فلا تطمحن بك
نخوة سلطانك عن ان تودي إلى أولياء المقتول
حقهم.
كل هذا وذاك، وبالمقارنة بين هذا التأسيس السياسي العصموي ـ عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام ـ مع التنظيمات السياسية الحاكمة في البلاد الإسلامية، يخلص بنا الى القول بأن غياب الزعيم الروحي والديني ـ المُنّصب إلهيا ـ في عصرنا الحاضر، لا يمنع من قيام دولة إسلامية تسترشد في برنامجها الحكومي بشريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله أو تحاول الاقتراب منهما في تشريعاتها، بيد أنها ستبقى صنيعة العقل البشري العادي، وبالتالي فأنها فاقدة لشرط العصمة، ما ينعكس على سياستها وزعامتها، وعليه فلن تكون ممثلة للدين الإسلامي، ما يحتم علينا عدم اجترار فشلها؛ على الإسلام، لأن برامجها وطريقة أدائها ستكون ضيقة بضيق عقول منظريها وزعمائها، ما يجعل الإسلام في حل من المسؤولية عما ترتكبه هذه الحكومة ـ المُدعاة إسلامية ـ من أخطاء، بعلة انتفاء شروط العصمة، سواء ما كان منها على صعيد المنهجية او على صعيد الزعامة الممثلة لهذه المنهجية.