الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الشرعية والمشروعية في السياسة الاسلامية
11 ربيع الثاني 1443هـ
لا يختلف أثنان، في كون الإسلام دين دنيا وأخرة، دين يسع الحياة ويستغرق أحداثها، وبطبيعة الحالة السياسية من ضمن ذلك، فضلا عن الحياة العامة بطابعها السلوكي والأخلاقي والإنساني، ما كان منها على الصعيد الفردي، أو على الصعيد المجتمعي.
ولأن وظيفة الدين ـ ونعني به الدين السماوي ـ هي تنظيم شؤون المؤمنين به، وتحقيق ما يمكن أن يبرئ ذممهم حيال ربهم من جهة، وحيال بعضهم من جهة ثانية، وحيال، انفسهم من جهة ثالثة، فأن الإسلام أسس لما يمكن أن ينظم الشأن العام، خصوصا في جنبته السياسية، لأن فيها ـ السياسة ـ كل ما يمكن أن تنتظم به الحياة العامة والخاصة.
ومن هذه التأسيسات الإسلامية؛ معالجاته للشأن السياسي، وإن شأت فقل الشأن الحكومي، لأنه الشأن الأكثر تماسا بحياة الأفراد، المعاشية والاقتصادية والاجتماعية، والأخيرة تنسحب حتى على السلوك الشخصي والأخلاقي.
وما هذا التدخل الديني في الشأن العام إلا اثباتا صريحا وتأكيدا واضحا على تكامل هذا الدين، ومداراته لكافة الشؤون الإنسانية، وهو ما يؤكد عظيم مصدره، وبالتالي فإن الإسلام ليس مجرد رسالة روحية أخلاقية، أو سلوك باطني خاص؛ إنما رسالة شاملة وعامة، تتضمن الشأن الإنساني برمته، بما في ذلك الجنبة السياسية منه، ومنها بناءه للدولة وعمرانها بالنظم والتقنينات اللازمة التي تستوجب أيجاد النظام السياسي الحاكم وأدوات حكمه الرشيد.
وعلى اعتبار أن القرآن الكريم هو الدستور العلوي للإسلام، فقد راح ينظم الشأن السياسي للأمة، ويبشّر بدولته العادلة، بل ويشتغل على تطبيقاتها العملية ـ بعد أن أسس نظرياتها وخطوطها العامة ـ، على شكل الزامات شرعية؛ ومن ذلك قوله عز وجل: (( ... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ))(سورة النساء ـ 59)، وربما وظّف بعض من نصوصه للتنظيم الإداري لهذه الدولة وسياستها، ومن ذلك قوله عز وجل: ((وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... ))(سورة البقرة ـ 143)، كما عمد الإسلام الى تنظيم الحالة الاقتصادية العامة ـ وهي من خصوصيات وضرورات الجانب السياسي ـ ومن ذلك قوله جل وعلا: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى))(سورة الأنفال ـ 41)، وقوله تعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... ))(سورة التوبة ـ 60).
وليس ببعيد، فقد نظّم الإسلام ما يمكن أن يقابل ما يسمى بالمجالس النيابية في عصرنا الحالي، من خلال اعتماد مبدأ المشاورة والمشورة، حسبما تؤيده الآية الشريفة ((فَبِما رَحْمَة مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))(سورة آل عمران ـ 159) فضلا عن سرده للقصص القرآني الذي يؤسس للاعتبار والعضة كما في تبيانه لقصة الملكة بلقيس بقوله تعالى: (( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ))()سورة انمل ـ 32).
وعلى هذا وذاك، فلا تخلو الأحكام الإسلامية من التنظيرات السياسة، وأن اختلفت عما يسمى اليوم بالسياسة وفن الممكن والدهاء السياسي، لأن السياسة في الإسلام تسترشد بالمبادئ لا بالمصالح، وتبتنى على مبدأ الشفافية لا وفقا لمبدأ الغلبة بالحيلة والمكر كما تفعله النظم السياسية العالمية اليوم. 
ومع ما تمتاز به السياسة في الإسلام من ميزات أخلاقية ومبدئية، إلا أن ثمة ممن جرها الى اللا مبدأ، من يحسب على الإسلام، من خلال ما يصطلح عليه اليوم بـ "الإسلام السياسي"، وهو الإسلوب الذي يمتطي به اصحاب المصالح، الإسلام؛ خدمة لمصالحهم، ولي أعناق النصوص بما يؤيد مطامحهم، بعد أن استصنعوا من وعاظ السلاطين وحاشية الزور والأفك ومنابر البلاط، ما يدعم ادعاءاتهم الجوفاء، فضلا عن تطبيقهم ما يتسق ورغباتهم بعد أن تستروا بالإسلام وتمترسوا ببعضه دون بعض؛ وإن كانت ألسنتهم تصدح بالإسلام ومبادئه؛ إلا أن تطبيقاتهم له لا تعدو أفق طموحهم الشخصي، بما يجعلهم ضمن دائرة السلطة والنفوذ السياسي، كمعاوية بن ابي سفيان ومن بعده أبنه اللعين يزيد بن معاوية، كونهما أمثولتان سلبيتان لما يسمى بالإسلام السياسي الماكر، حيث عمدا الى تسيد الناس بأسم الدين وهو منهم براء، وتظاهرا بالإسلام خلافاً لسلوكهما الفاحش بعد أن امتطيا منبر رسول الله صلوات الله تعالى عليه وآله؛ تحقيقا لمآربهما الدنيوية الدنيئة بعد أن تسلطا على رقاب المسلمين ومعايشهم ومقدراتهم، وهو ما حدا بمقابلتهما والرد عليهما من حفظة الدين القويم وعيبة علوم الله؛ ائمة الهدى المهديين بدء من الإمام علي عليه الصلاة والسلام مرورا بأبنائه الحسن والحسين صلوات الله تعالى عليهما؛ ليعّروا هذه الطغمة الفاسدة ويميطوا اللثام عن مأربها ومطامحها الشخصية.
يذكر أن معاوية اللعين كان قد اعترف ـ بعد صلح الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ـ قد اعترف بنواياه وأعلنها صراحة بأنها مجرد مطية يصل بها لأهدافه، ومن ذلك قوله: "إِنِّي واللَّهِ مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا وَ لَا لِتَصُومُوا وَ لَا لِتَحِجُّوا وَ لَا لِتُزَكُّوا، إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَ لَكِنِّي قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَ قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ ذَلِكَ وَ أَنْتُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَلَا وَ إِنِّي كُنْتُ مَنَّيْتُ الْحَسَنَ وَ أَعْطَيْتُهُ أَشْيَاءَ وَ جَمِيعُهَا تَحْتَ قَدَمَيَّ لَا أَفِي بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا لَه ".
ونفس الأمر بالنسبة ليزيد اللعين، الذي جيش الآلاف من المرتزقة لقتل الإمام الحسين ووأد مشروعه الإصلاحي الذي يمثل الإسلام الأصيل.


فاطمة الناظم