يعيش جميعنا هذه الحياة، وجميعنا
تمضي من حياته الساعات والأيام تِباعًا، وكذلك ندرك جميعا أنّ
الذي يمضي منها لا يعود، ولكن تبقى حقيقة نوع هذه الحياة التي
يعيشها كل فرد منّا واضحة، فهل يا ترى ما نعيشه من حياة، هو نفسه
الذي نريده ونؤمن به، وهو نفسه النوع الذي نحدّده ونسعى لتكون
عليه حياتنا، أم أنّ آمالنا في جانب وحياتنا اليومية في الجانب
الآخر؟ وبمعنى آخر هل أنّ الحياة التي نعيشها، هي نفسها الحياة
التي نتصور ونتمنى ونجاهد لكي نعيشها؟ وهل أنّ ما نعايشه من حياة،
مختلفٌ على ما نتصور ونتمنى عيشه؟ فالجميع يريد ويتمنى أن يعيش
حياة الأحرار، ولكنّنا قطعا تتفاوت قدراتنا على محاكاة حياة
الأحرار، وذلك يعود للتفاوت في الفهم والمعرفة، وكذلك في درجة
حضور وعينا أثناء تصرّم أيامنا وسنين عمرنا، فالغفلة وغياب الوعي
بالحياة التي نعيشها هو السبب الأساس في التعارض القائم بين ما
نريده وبين ما نحن عليه من حياة.
ولنبلُغ مرتبة ترجمة ومعايشة
الحياة الحُرَّة المرتكزة على القيم الخالصة، لا بد من أن ندرك
قبل ذلك حقيقة أنّ كل قيمة دينية أو إنسانية وفي ارتباطها بالكائن
البشري، تكون على مراتب ثلاثة، بمعنى أنّ معايشة الإنسان للقيم
والمبادئ تكون على ثلاثة مستويات مختلفة، ولن تكتمل حالة المعايشة
إلاّ بإتمام المراحل أو المراتب الثلاثة:
المرتبة الأولى:
هي مرتبة التَبَنِي الفكري
والذهني للقيمة أو المبدأ المراد ترجمته في حياة الفرد، وهذه
المرتبة قد لا تحتاج إلاّ لمعرفة القيمة أو المبدأ، وانعدام
المانع من تبنيها، كـ «الشبهة»، وكذلك نلحظ أنّ هذه المرتبة سهلة
البلوغ والتحقّق، لذلك نرى أنّ السواد الأعظم من بني الإنسان قد
أتمّها وعايشها، ولا ينحرم منها إلاّ ما يصحّ أن نسميهم بـ
«شياطين الإنس»، فالعدل والصدق لا يرفض تبنّيهما إلاّ من هو مصداق
واقعي للشيطان.
المرتبة
الثانية:
وهي مرتبة المعايشة القلبية
الوجدانية للقيمة أو المبدأ الذي نريد أن نتلبّس به، وهذه المرتبة
تحتاج بالإضافة لتحقّق المرتبة السابقة، سلامة المحتوى الداخلي
للإنسان وخاصة النفسي منه، ولذلك نلحظ أن أغلب الأفراد البشرية
وعندما يحصل أمامهم حالة ظلم، لا تستثار أفكارهم فقط، بل وتتحرّك
أيضا مشاعرهم ودواخلهم، فيرفضون الظلم لترسخ قيمة العدل في
شعوراتهم القلبية.
المرتبة الثالثة:
وهي مرتبة ترجمة القيمة أو المبدأ
في السلوك والعمل، فبعد تبني القيمة ذهنيًا وفكريًا، وبعد ترسيخها
في القلب والوجدان، تأتي مرحلة تنزيل وترجمة القيمة في السلوك
والعمل، وهذه المرتبة هي أشدّ المراتب الثلاثة وأكثرها صعوبةً،
فهي المرتبة التي لم يبلغ لها إلاّ القلّة القليلة من النّاس ـ
جعلنا الله منهم ـ، والسبب وراء عجز السواد الأعظم من النّاس على
بلوغ هذه المرتبة، هو أمر قد لفت المولى تعالى إليه في كتابه عديد
المرات، وهو النّفس البشرية!
فما نعبّر عنه بـ «النّفس»
والتي هي من أصعب أدوات الامتحان والبلاء الإلهي للإنسان في هذه
الحياة، بحيث نجده تعالى قد جعل نشأتها تنزع بطبعها نحو الدنيا
وما تحويه من شهوات وملذّات ومفاتن، فهذه النفس لا تهتم كثيرا
بمعايشتك للمرتبة الأولى والثانية، وبعضها قد لا يعارض ذلك، بل
نجدها تقف بقوة لدرجة الإنهاك عند البعض، وتصارع صاحبها لكي لا
يصل للمرتبة الثالثة، لأنّ وصول الفرد للمرتبة الثالثة ومعايشته
لها يتعارض مباشرة مع مصالحها التي لا تتجاوز في أغلبها الحياة
المادية الدنيوية، فالتّضحية والإيثار كقِيَم إنسانية ودينية، قد
يتبناه الفرد، ثم يرسّخه في داخله، بدون أن تعارض ذلك النّفس،
ولكن بمجرد أن يعمل الفرد على ترجمة هذه القيَم في سلوكه وعمله،
وبالتالي معايشتها في حياته اليومية، هنا سوف تقف النّفس لتمنع
تحقّق ذلك، لوضوح أن تحقّق القيم في السلوك سوف يحول بينها وبين
ما تتعلّق به وتهواه وتحبه في هذه الحياة الدنيا، وكذلك
تُفقدها جملة من الأمور والعناصر التي تَمُدَّها بالطاقة، التي
تنمو وتتقوى بها على صاحبها، وهي تلك الطاقة التي تستخلصها
النفس من عنصر اللّذة، الذي نعايشه ويترتب على: «الأكل والشرب
والنوم والراحة والجنس والتفاخر والملك
والحيازة....».
ولعلّنا إن عدنا للقرآن الكريم
بالبحث والتأمل، سنجد تلك السورة القصيرة في طول عباراتها، غير
أنّها تُلخِّص وتحتوي على خلاصة الفائدة التي يريد المولى تعالى
ايصالها لبني آدم، وكذلك تكشف لنا المراتب الثلاثة التي نتحدّث
عنها، وهي سورة «العصر».
فالمولى تعالى نراه ومن مقام
الإخبار يُقسم بالعصر ((وَالْعَصْرِ.....))(سورة العصر)، ثم يذكر
متعلّق القسم ((إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر))، فهو تعالى يقسم
بكون الإنسان بما عليه من تركيبة، لو خُلِّي وطبيعته سوف ينساق
ويذهب نحو الخسارة، ثم يستثني من الخسارة بعض مصاديق الإنسان
الذين تَحَلُّوا ببعض الصفات، فيقول: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، فهو تعالى يستثني من الخسارة بعض
المصاديق البشرية الذين تحقّق لهم الإيمان وكذلك العمل الصالح،
وبعد ذلك يخبرنا بنعوت أخرى لتسهيل تحديدهم، فيقول:
((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))، فمن
المميزات أو العلائم الكاشفة على كونهم من المؤمنين العاملين
صالحًا، هو كونُهم يتواصُون في ما بينهم حين المِحنَة بالالتزام
بالمواقف المطابقة للحقّ، والتحلّي بالصبر في مواجهتها،
((وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)))(العصر ـ 1
ـ3).
فالمراتب الأولى والثانية التي
تحدثنا عنهما، تحويهما مفردة الإيمان الواردة في الآية، وذلك
لوضوح أنّ الإيمان يتمُّ بالتبني الذهني والانعقاد القلبي، الذي
هو تعبير مرادف للترسُّخ الداخلي، أمّا المرتبة الثالثة فتحويها
مفردة العمل الصالح، وذلك لوضوح أن العمل الصالح هو تجلي وانعكاس
للقيم الإيمانية المترسخة في داخل الإنسان.
ومن هنا، وبعد أن عرفنا المراتب
الثلاثة التي تمر بها القيم والمبادئ عند الإنسان المؤمن الحرّ،
نعود لنقول: أنّ الفرد المؤمن الحُرّ هو ذاك الفرد الذي تمكّن من
أن يعايش القيم الدينيّة الإنسانية في مراتبها الثالثة المذكورة،
فبعد أن يتمكّن الفرد من أن يَتبنى ويُرسِّخ في داخله ثمّ
يٌتَرجِم قيم الإنسان الحُرّ، وبالتحديد بعد أن يتمّم المرحلة
الثالثة، عندها فقط يصِحُّ لنا أن نحكم ونقول مطمئنين بأنّه يحيى
في دنياه حياة الأحرار، لإنه بإتمامه للمرحلة الثالثة يكون قد
تمكّن من تحرير ذاته وقراراته وسلوكه ومواقفه من سيطرة النّفس
عليهم، وبالتالي خَلَّص حياته من سيطرة النّفس التي لا تهتمّ بقيم
الإنسان بقدر اهتمامها بما يحقّق لها أهوائها وشهواتها ورغباتها،
التي تكون في أغلبها لا قيمة حقيقية لها.
وإلى هنا يتضح وينكشف لنا مفهوم
الحرّية كما نفهمه في منظومتنا الإسلامية، فتحرير الذات
الإنسانية، من خلال تحرير القرارات وبالتبع المواقف والسلوك
البشري، من سيطرة النّفس التي قد تصل للسيطرة الكاملة على جميع
أركان الكيان البشري، وذلك من خلال السيطرة على سلطة القرار
الداخلي، هو الذي نراه المصدّاق الأسمى لمفهوم: «الحرّية» الذي
نتبناه وندافع عنه، وهو الذي بتَحَقُّقِه يصِير الفرد البشري
حرًّا.
فمفهوم الحرّية الذي نُقِرِّه هو
تحرير الذات الإنسانية من سيطرة وحاكمية النّفس عليها، وهذا بطبعه
يخالف مفهوم «الحرّية» الذي نَحَتَتْهُ وآمنت به المجتمعات
الغربية، والذي يطرح لديهم على كونه: تحرير النّفس من القيود التي
تتبناها الذات الإنسانية، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو عرفية،
بل الذي تُوصلنا له الملاحظة الدقيقة، هو أنّ مفهوم «الحرّية» قد
صُدِّرَ لواقع الأمّة الإسلامية بأبشع معانيه، وهو ارضَاخ الذات
الإنسانية تحت سيطرة أهواء وشهوات النّفس
البشريّة.
ونحن وعند تأمل الأهواء والشهوات
النفسيّة، سنلحظ أنّها تقيس الأمور بمقياس المصلحة المادية في
أغلب الحالات، والمعنوية في بعض الحالات، ومصالحها الماديّة لا
نجدها تتجاوز الملذات الدنيوية، أمّا المعنوية فهي تلك المصالحة
التي تحدّها في الغالب قيمة الأنانية.
وخلاصة القول في هذا المقام، هو
أنّنا ولنعيش الحرّية بمعناها السامي، وبالتالي نكون من الذين
يَحْيَوْنَ في دنياهم حياة الأحرارِ، لا بد لنا من معرفة قِيَم
ومبادئ الأحرار معرفة تامّة، فهي عينها القيم والمبادئ التي دعانا
لها المولى تعالى في كتابه الكريم و بصيغٍ كثيرة، وبعد معرفتها
لابد لنا من تبنيها فكريا، ثم نعمل على ترسيخها في داخلنا حتى
ينعقد عليها محتوانا الداخلي، والأهم هو المجاهد لترجمة هذه القيم
والمبادئ في سلوكياتنا وحياتنا اليوميّة، بحيث تكون تلك القيم
والمبادئ المترسخة في داخلنا، هي المرجع المُحَدِّد لنوع الموقف
والسلوك الذي يصدر منّا، وكذلك هي العناصر المساعدة لذواتنا في
اتخاذ القرار المناسب.
وهذه الخطوة الأخيرة، لا يمكن أن
تتحقِّق إلاّ بعد أن نَعْرف النَّفس التي تقبع بين جنبينا، معرفة
دقيقة ومباشرة، ثمّ نعمل على ضبطها والتحكم فيها، بحيث نضعها في
الموقع المفترض لها، حتى لا تتدخل في صياغة قراراتنا، وخاصة
المصيرية منها، وبالتالي يكون لها دخالة في تحديد الموقف الذي
نريد اتخاذه اتجاه ما يعترضنا من منعطفات في حياتنا الدنيوية،
وهذا المعنى هو ما أشار له المولى تعالى في كتابه العزيز، في معرض
الحديث على النّفس البشرية، فقال: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(((الشمس ـ 8-9).
حبيب مقدم