السبت - 17 رجب 1446هـ -
السبت - 17 رجب 1446هـ - 18 كانون الثاني 2025


النهضة القضائية في التشريعات الإسلامية
16 ربيع الثاني 1439هـ
بداية، فأن القضاء واجب إسلامي كفائي، كون النظام العام متوقف عليه، بل وأن النهي عن المنكر هو الأخر موقوف على التطبيقات القضائية، وعلى ذلك؛ فلابد ممن يتصدى له، أن تجتمع فيه شروط ذلك، ومن ذلك وجود العدالة في القاضي، وليس المقصود بالعدالة، العدالة القضائية في الحكم، بل أبعد من ذلك هو عدالته الشخصية وكونه مؤمنا تقيا، ما جعل الإسلام يحرم التقاضي والتحاكم لدى الطاغوت، كون ذلك يشكل مفسدة اجتماعية تجرح النظام الإسلامي.
ولأن القضاء ونظامه ومنظومته وآلياته، اهم لبنات تكوين الجماعة الإسلامية المنضبطة ومجتمعها المتكامل عبر ما يصطلح عليه بالعدالة الاجتماعية، فضلا عن تحقيق سيادته ـــ الإسلام ـــ السياسية على هذه الجماعة، لذا فقد منح الإسلام؛ القضاء غاية اهتمامه، وراح يحيطه بما لا يسمح له بالميل إلا للعدالة والإنصاف، سيما وأن هاتين الصفتين ركيزتان إلهيتان يتمحور حولهما النظام الاجتماعي الإسلامي برمته، ويدور معهما وجودا وعدما، إذ يحق الإسلام للناس من خلالهما؛ حقوقا كبيرة وكثيرة، سواء ما كان منها بمرحلة التقاضي او ما قبلها وما بعدها؛ كنوع من الحماية القانونية للأفراد. 
ولنبدأ أولا من واجبات القضاء العادل، ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا))(النساء ـــ58)، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المائدة ـــ 8).
وقد حدد الإسلام جملة شروط فيمن يتصدى للقضاء، وكما يلي:
1. الكفاءة العلمية: وقوامها أن يكون القاضي مجتهدا أو على الأقل كونه قادرا على الترجيح فيما يعرض عليه وفقا للبينة القضائية، دون ان يضطر للحكم بعلم محدود او هواه النزوي، وفي كليهما مضيعة للحق.
والكفاءة هنا إنما هي المعرفة الشاملة وسعة الاطلاع بالقوانين والأحكام والوقائع بمستوى عال من الدقة والحرفية، فضلا عن توفيقه لهذه العلوم والواقع على حد سواء.  
2. البلوغ والعقل الرشيد: وهو مما أجمع عليه في الإسلام، بضرورة أن يكون القاضي بالغا رشيدا عاقلا، لأن من لم يكن بالغا فلا تكليف عليه وبالتالي فلا يمكن مطالبته برد الأحكام غير العادلة، اما كونه عاقلا فإنما يراد به الرجاحة وليس ما يقابل الجنون، فالمجنون لا يمكن بأي حال؛ جعله قاضيا، إما عن الرجاحة فكونه ممن يوظف عقله في عقلنة الأحكام والتوفيق بينها واستنطاق روح العدالة من بين النصوص القضائية، كما يصفه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفئ الى الحق إذا عرفه، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه؛ وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور". 
3. العدالة: وهي روح القاضي ومطلبه الأول، وتُعرف بأنها ملكة نفسية تمنع صاحبها من التقرب من الكبائر وتمنعه من الرذائل والإصرار عليها، وبالتالي ما يجعله يوفق بين دينه ودنياه قولا وفعلا، ما يجعل عدالته ميزان لضبط مجتمعه المسلم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ))(النساء ـــ135)
4. التزام الضوابط الأخلاقية: ويجب على القاضي التوافر على منظومة قيمية وأخلاقية ستكون مادته في الحكم، ومن ذلك مثلا سعة الصدر ورحابته وضبط النفس والحكمة، سيما في التراجع عن الخطأ وزنة قضاءه بوزن الشرع والعقل، والنباهة وعدم التسرع في الحكم، أي أن لا يحكم قبل أن يحيط حكمه بأقصى درجات الحذر والفهم والتأمل كنوع من التبصر فيما يحكم.
كل ذلك فضلا عن صفات أخرى كإسلامه وذكورته وطهارة مولده وحريته. 
ولم يغفل الإسلام عن إدامة محيط القاضي بدواعي العدالة وما يمنعه من الانحياز تحت أي ضغط كان، ومن ذلك ما أمّن به الوضع الاقتصادي والوظيفي للعمل بالقضاء وهو ما أوصى به أمير المؤمنين علي عليه السلام واليه على مصر حين قال له : "وأعطه ـــ أي القاضي ـــ من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فأنظر في ذلك نظراً بليغاً، وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس".