السبت - 17 رجب 1446هـ -
السبت - 17 رجب 1446هـ - 18 كانون الثاني 2025


البعد الروحي في السلوكيات الدينية.. نظرة فاحصة في فلسفة التكاليف الإسلامية
16 جمادى الاول 1443هـ
يرى اللا دينيون في الدين عموما، وفي الدين الإسلامي علة وجه الخصوص، اختيارا لا هدفيا، بل ويصرون على انه ـ الدين ـ ضد الإنسان، ولا يتسق والحياة، وأن ـ والقول للملاحدة واللا دينيين ـ الدين بصورة عامة، إنما هو مخدر للشعوب، يخفون خلفه ما لا يستطيعون تحقيقه، وهو حيلة العاجز، والعياذ بالله، متناسين ما أسس له الدين، ومنه الإسلام من مفاهيم وطروحات نوعية عُدت اساسا لنظم وتشريعات يتشدق بها الكثير من المنظمات والمؤسسات الأممية والدولية، فضلا عن القوانين التي تبنها حكومات الكثر من البلدان، ناهيك عما بناه من مجتمعات استطاعت ان تشكل حضارا قائمة بذاتها تغالب وتغلب أي حضارة بناها الإنسان وفقا لرؤيته الشخصية، مهما كبرت وعظمت. 
وأهم ما اشتغل عليه الدين الإسلامي في صناعة الفرد هو اثراءه بالبعد الروحي، وإحاطة سلوكياته بالجانب الإنساني، وإن شأن فقل بالجانب الخيري، فترى أن وراء كل سلوك او توجيه أو تكليف يكلف لها الشارع الإسلامي المقدس، الفرد المسلم، ترى ثمة دفع لجانب روحي ما، خصوصا تلك الجوانب التي تربط الأواصر بين نبي البشر، وتشد من اندماجهم والتكافل بينهم بغض النظر عن أي انتماء يمكن ان يفصل بينهم، حيث نجد ان جميع توجيهات الشارع الإسلامي المقدس ـ بما في ذلك العبادات ـ تشد الفرد لأزرة اخيه، واعانة المحتاج والفقير والمسكين، فبدءا من التعاليم الإسلامية التي تحض على اطعام الفقير واليتيم والمسكين، كقوله تعالى: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ))(سورة الحج ـ 27 ـ 29)، وقوله تعالى: ((وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة الحج ـ 36).
وإمعانا في إطعام المحتاج، فلطالما جعل الشارع المقدس كفارة فعل الخطأ، وارتكاب المعصية هو اطعام المسكين، وهو ما اكدته الكثير من الآيات القرآنية، قوله تعالى: (( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة المائدة ـ89)، بل وسمح لمن لا يستطيع الصيام لعارض ما، أن يكفر عن ذلك بإطعام المساكين، كما في قوله تعالى: ((أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))(سورة البقرة ـ 184). 
وأبعد من ذلك، يجد المتتبع منا في مورد رده على اللا دينيين، أن الكثير من العبادات التي يقوم بها المتدين تستبطن نوعا من التكافل مع المحتاج والمعوز، ففلسفة الزكاة هي عطاء للمحتاجين، كقوله تعالى : ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ))(سورة الأنبياء ـ 73)، وقوله تعالى: ((رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))(سورة النور ـ 37 ـ38)، ونفس الأمر بالنسبة للخمس، والكفارات والأضحية، 
بل ويفضح القرآن الكريم كل من تسول له نفسه فهم الدين والتدين على أنه مظاهر وطقوس وحسب، بل عد من يمنع اطعام الناس مرائيا حتى لو كانت صلاته صحيحة، كما تبينه الآية الشريفة من قوله تعالى: ((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7))(سورة الماعون ـ 1 ـ 7)، ونفس الأمر ينسحب على فسلفة الصوم التي تستبطن معنى الجوع استشعارا لما يشعر به الجائع، وهو ما أكد الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بمورد اجابته لمن سأله: "لم افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟"، فقال: "ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين".
وأبعد من ذلك، أكد للشارع الإسلامي المقدس على أن وجوه البر لا تكون في التوجه لله بالصلاة فقط، إنما من خلال العطاء لمن يستحق، كما في قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ... ))(سورة البقرة ـ 177)
كما بنى الإسلام بنائه على التواشج مع الأخرين من خلال تقديم حاجاتهم على حاجة الفرد الشخصية، وهو ما يقرب المرء لربه، فعن رسول الله الأكرم صلوات الله تعالى عليه وآله، أنه قال: "خير الناس من ينفع الناس فكن نافعاً لهم"، وقوله: "خصلتان ليس فوقهما من البر شيء الإيمان بالله والنفع لعباد الله".
ومن جهته، فقد عد الإمام محمد الباقر عليه الصلاة والسلام سد جوعة المسلمين وأكساءه احب الى الله من سبعين حجة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين: أسد جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكف وجوههم عن الناس أحب إليّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين".

فاطمة الجابري