الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


ابن مالك الأندلسي.. سيبويه الأندلس
13 ربيع الثاني 1443هـ
أدّت الفتن والحروب التي اجتاحت بلاد الأندلس الإسلامية بين الحكام المسلمين من ناحية، وبين هؤلاء وبين الحكام النصارى الذين يحنّون الى أصوات النواقيس ورسم الصليب في بلادهم، من ناحية أخرى إلى جعل الحياة في الأندلس جحيماً لا يطاق، فشد علماء هذه البلاد الرحال إلى المشرق حيث موطن أجدادهم، فشمس العلم لا تشرق إلا في سماء الأمن والطمأنينة، وقد حلّ أكثر هؤلاء العلماء الذين هاجروا من الأندلس، في مصر والشام، ومن هؤلاء العلماء الذين حطوا ركابهم في دمشق، ابن مالك الأندلسي الذي كان يُعد (سيبويه) زمانه في الدراسات النحوية واللغوية.
ولد محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي بمدينة (جيان) القريبة من قرطبة في نهاية القرن السادس أو بداية القرن السابع الهجري حيث لم يجزم المؤرخون بسنة محددة لتاريخ ولادته، وكما اختلفت الروايات في سنة ولادته فلم تتفق كذلك في السنة التي هاجر فيها إلى الشام إلا أنهم قدروا سنه في تلك الفترة على أنه كان في نهاية العقد الثالث من عمره. 
وتدل الروايات على أنه عاش ردحاً من الزمن في مهجره غريباً فقيراً، فلم يكن له أهل ولا مال كما لم تكن له صنعة أو حرفة يتعيش منها فأنتظم في سلك طلبة العلم فكان يعتاش على الأوقاف المرصودة التي لم تكن تغني من جوع، وبقي لفترة يعاني شظف العيش حتى تبين للسلطان الظاهر بيبرس مكانته العلمية وبراعته في النحو فعيّنه في عدة وظائف، ففي حلب كان متصدّراً لتعليم العربية وكان إمام المدرسة السلطانية كما تولى عدة مناصب لا تولّى إلا لمن كان نابغاً في القراءات واللغة العربية فتحسنت أحواله المادية وهذا ما أعانه على التأليف ونشر العلم فكان يصيح: (العربية.. العربية)، يدعو بذلك الناس إلى الحفاظ على لغتهم تعلم قواعدها وآدابها.
ولعل من أهم وأشهر مؤلفات ابن مالك هي الألفية أو الخلاصة وقد نظمها في ألف بيت وقد صنفها لابن البارزي وقد اختصر هذه الخلاصة من منظومة طويلة نظمها قبلاً سماها (الكافية الشافية) وقد اهتم علماء النحو بهذه الخلاصة أو الألفية إلى يومنا هذا شارحين ومعلقين، واضعين نصب أعينهم شرح غامضها وتذليل مصاعبها وتوضيح خفيها. 
ومن أهم الشروح التي مازالت تدرس في أقسام اللغة العربية بالجامعات العربية إلى الآن شرح العلامة أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الشهير بأبن عقيل النحوي المتوفى 769 للهجرة، وشرح العلامة نور الدين أبي الحسن علي بن محمد الأشموني المسمى (منهج المسالك الى ألفية ابن مالك)، وقد أسهم الشيخ نور الدين إبراهيم بن هبة الله الأسنوي المتوفى سنة 721 للهجرة بنشر الألفية وكذلك قام بهذا المجهود برهان الدين إبراهيم بن موسى الكركي المتوفى سنة 853 للهجرة ومن هذا القبيل كتاب (أوضح المسالك الى ألفية ابن مالك) للعلامة ابن هشام النحوي المتوفى سنة 761 للهجرة والذي اشتهر فيما بعد بالتوضيح.
وتعد الألفية الكتاب الوحيد في النحو الذي شغل العلماء منذ عصر ابن مالك بشرحها والتعليق عليها، وبما دار حولها من شروح وتعليقات ما زالت حية نابضة قوية متحركة لم تضعفها كثرة السنين التي مرت على تأليفها، ولا أدلّ على ذلك من أن جامعاتنا التي أخذت على عاتقها دراسة اللغة العربية ظفرت فيها دراسة الألفية بشروحها وتعليقاتها بنصيب كبير وكان منهج ابن مالك الخاص الذي اتبعه في الدراسات النحوية قد صنفه بنفسه وكونه من ثقافاته ومعارفه فمن الأصول التي يقوم عليها هذا المنهج ما ذكره المقري عنه أنه: (كان أكثر ما يستشهد بالقرآن فإن لم يكن شاهد عدل الى الحديث وإن لم يكن شاهد عدل الى أشعار العرب). 
واستشهاد ابن مالك بالقرآن الكريم لا يقف عند القراءات المتواترة فحسب بل يأخذ بها جميعاً في بناء القاعدة سواءً أكانت متواترة أم شاذة، يقول السيوطي: (ابن مالك أخذ بالقراءات الشاذة وردّ على النحويين وهم المتقدمين الذين يعيبون على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية وينسبونهم الى اللحن وهم مخطئون في ذلك فإن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مطعن عليها وثبوت ذلك على جوازه في العربية). 
فابن مالك لا يتشدد في قبول القراءات كما كان يفعل علماء البصرة، بل كان يرى أن هذه القراءات رُويت عن عرب خُلّص أقحاح ومن الغبن أن يستشهد بكلام لم تبلغ درجة العناية به كما بلغت في القراءات التي هي أولى في مجال الاستشهاد من شعر الشعراء وخطب الخطباء كما يذهب ابن مالك إلى صحة الاحتجاج بالحديث الشريف لأن الرسول صلى الله عليه وآله أفصح العرب لساناً وأقواهم بياناً وأحسنهم بلاغة وقد اهتم رواة الحديث بما نقل عنه صلى الله عليه وآله وتشددوا في ضبطه ودققوا في روايته وتكبدوا المشاق والرحلات في سبيل ضبط هذه الأحاديث ومعرفة الرجال الذين نقلوها أو رووها ولهذا كان الاحتجاج بالحديث في نظر ابن مالك يلي القرآن الكريم في مرتبة الاحتجاج به وقد صنع في ذلك كتاباً أسماه (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح) وقد حققه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. 
ولا يستشهد ابن مالك بأشعار العرب في إثبات القواعد النحوية إلا بعد الرجوع الى القرآن الكريم وقراءاته ثم الأحاديث الشريفة فهي في نظره أقوى في الاستشهاد وأبلغ في الاحتجاج من أشعار العرب وهو في كل ذلك له مقدرة عجيبة وإطلاع شامل وبصر باللغة دقيق وقد شبهه البعض في الاتساع في روايات أشعار الشواهد النحوية بالكوفيين بأخذهم من كل القبائل وقد شهد له علماء عصره بهذا الباع الطويل.
في هذا المضمار يقول المقري عنه في نفح الطيب: (كان كثير المطالعة سريع المراجعة لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله وهذه حالة الثقات ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنّف أو يقرِئ... إلخ) وكان ابن مالك يراعي في أقيسته السهولة فكان يحترم كل مسموع ويقيس عليه لأنه يرى أن اللغة متطورة وكلما ازدادت أساليبها وكثرة المروي عنها وكلما اتخذ هذا المروي أساساً ليقاس عليه كانت اللغة حية نامية متحركة.
تبوّأ ابن مالك مكانة علمية بين علماء عصره فلما توفي رثاه الكثير من الأعلام والأدباء فقد رثاه الشرف الحصني بقصيدة طويلة قال الصفدي عنها: (ما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها كما رثاه تلميذه بهاء الدين بن النحاس بقصيدة يقول منها:
قل لابن مالك إن جرت بك أدمعي حمراً يحاكيها النجيع القاني
فلقد جرحت القلب حين نعيت لي وتدفقت بدمائه أجفاني


محمد الطاهر الصفار