الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


البيعة... ديمقراطية متقدمة
30 رجب 1443هـ
لم يكن الجبروت الإلهي مانعا من محاورة الله لخلقه! بل والأقل مرتبة من الإنسان ـ كالملائكة مثلا ـ في شأن جعله وتعيينه لخليفته في الأرض ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (البقرة-30)، ومن ذلك مثلا محاورته جل شانه لإبليس الذي أبى الامتثال للأمر الإلهي في السجود لآدم، مع علمه بأن الأخير مجعول بأمر الله، خليفة له وتكريما وتشريفا له ((قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)) (الأعراف-12)، فكيف بالله وهو يحاور ويتعامل مع أحسن مخلوقاته الإنسان؟ ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) (التين-4)، فمن المؤكد أنه سيكون حوارا وسلوكا "ديمقراطيا" راقيا تحفظ فيه كرامة الإنسان ويظهر فيه علو شأنه، وهذا ما نشاهده في جل آيات الكتاب ومن تلك الكيفية "الديمقراطية" عالية المضامين كان طلب البيعة من عوام الناس لولاة الأمر من النبي محمد والأئمة الاثنا عشر من بيت النبوة عليهم السلام، بيعة بالتخيير، وهذا ما قد يتسق مع المسمى العصري لمنهج الديمقراطي، حيث تتجلى "ديمقراطية" الإله ـ والتعبير بمفردة الديمقراطية هنا تعبير مجازي ـ بالمشيئة لعباده ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا )) (الكهف-29) إذ لم يفرضها عليهم بالإكراه؛ وهو القادر الغالب على أمره، وهو الجاعل لولاة الأمر والآمر بطاعتهم.
وبما أنه الكامل ولا يختار مبشرا ومبلغا وقائدا لرسالته إلا الكامل، فالبيعة إذن بيعة تأكيد وقبول، ما جعلها اختيارية لا جبر فيها، لتتخذ شكل من اشكال العقد الاجتماعي المتقدم، والمعاهدة بين من تصدى لموضوع المتولي والمتولى، وهي بالأصالة بيعة بين الله عن طريق نبيه والأئمة من بعده عليهم السلام من جهة وعباده من جهة اخرى ((نَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )) (الفتح-10)؟
وسميت البيعة كذلك، استلالا من مصدر الفعل "باع" وهذا يعني أن حالها يماثل حال أي عقد أو معاهدة بين بائع ومشتر بموضوع مشترك يجمعهما، يتم التعاقد والمعاهدة على بيعه، وشرطها ألا تتم بالإكراه وإنما بالقبول والرضا، وبتمام الأهلية لكل ذلك، ولا تبعات على من امتنع عن أداء البيعة، اتساقا مع منهج التخيير الإلهي.
وقد تتم البيعة أحيانا بشكلية ما كصفق الأيادي بين المبايع ـ بفتح الياء ـ والمبايع ـ بكسرها ـ وتكون شروطها نافذة بعد البيعة مباشرة، ولا يعتد ببيعة لولي يخالف سنة الله ورسوله، وتأكيدا لمبدأ المساواة في الإسلام فإنه لا يفرق في أخذها بين ذكر وأنثى إذ تؤخذ من النساء أيضا، ويستثنى من ذلك الأطفال القاصرين الذين لم يبلغوا سن التكليف، فضلا عن المجنون الذي ليس عليه حرج.
يتبين مما تقدم أن البيعة في الإسلام حالة ديمقراطية متقدمة في السبق والتفرد على باقي الحضارات التي سبقتها والتي عاصرتها، وفيها شبه من الحال السياسي الديمقراطي الانتخابي الذي نعيشه اليوم.

البيعة في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله
كان لنظام البيعة حضور جلي منذ بداية الدعوة الإسلامية إذ كان أول المصدقين بها من النساء والمبايعين لصاحبها ـ الدعوة الإسلامية ـ الرسول الأكرم ـ هي زوجته السيدة خديجة سلام الله عليها، في حين كان أول من صّدق وبايع من الرجال هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، تبعتها بيعة العشيرة من بني هاشم في يوم الدار، وهذا يّعد مصداق وشاهد آخر يؤكد التزام وتجذر نظام البيعة في الإسلام، وما امتثال الرسول الكريم صلى الله عليه واله للأمر الإلهي المنصوص عليه قرآنيا في الجهر بالدعوة وطلب البيعة من الأقربين ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) (الحجر-94) إلا تأكيدا على "ديمقراطية" نهج الإسلام حيث جمع عشيرته الأقربين وبلغهم رسالة ربه التي جاء بها من عنده وهي رسالة الإسلام ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)) (الشعراء-214) حيث بايعه بنو هاشم على إثرها، ثم تلتها بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشر للهجرة في مكة المكرمة مع وفد من الأنصار في موسم الحج، تلتها بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشر للهجرة وكانت مع الأنصار أيضا ولكن بعدد أكبر وفيها تعاهد الأنصار على نصرة الرسول والرسالة بكل ما يملكون، وأن يذودوا عن النبي ورسالة الإسلام بأنفسهم وأموالهم ولو كلف ذلك القتال معه ضد كل معتد، مما مهد لهجرة النبي صلوات الله عليه وآله للمدينة المنورة بعد التضييق عليه وحصاره في مكة، وبايع المسلمون رسولهم الكريم بيعة الرضوان التي سميت بيعة الشجرة في الحديبية، فضلا عن بيعتهم له بعد فتح مكة في العام نفسه، لتليها بيعات على شكل  أفراد وقبائل إلى أن جاءت بيعة الغدير التي شهدها ما يقارب اثنا عشر الف حاج، بايعوا على تولي الإمام علي عليه السلام إمرة المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبأمر من الله، لكن سرعان ما نقضت هذه البيعة الكبرى من بعض من حُسب على الصحابة.

البيعة في عهد الخلفاء السياسيين بعد رسول الله صلى الله عليه واله
لم يتغير شكل البيعة في عهد الخلفاء السياسيين في مرحلة ما بعد الرسول الأكرم، بل بقي مثلما هو عليه، من الوجهة الشكلية متضمنة القبول والطاعة لأوامره، لكنها فقدت الكثير من مضامينها وشروطها التي بنيت عليها، خاصة بعد العملية السياسية الانقلابية التي جرت في سقيفة بني ساعدة، وكان أول ما افتقدته هو التنصل من شرط الطاعة لرسول الله صلوات الله عليه وآله في بيعة الغدير حيث يشكل هذا التنصل والانقلاب خروجا واضحا على طاعة الله ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ )) (الأنفال-20) خصوصا وأن المتنصلين هم من علية القوم وأول المبايعين لولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وثانيها أن بيعة السقيفة جرت بالإكراه والتهديد والوعيد، ما شكل خرقا قاتلا هدد بنية الإسلام في وقتها، لتنتج ما يسمى زورا بحروب الردة في عهد الخليفة الأول، لتأخذ البيعة بعد ذلك منحى آخر بعيدا عن روح الإسلام من خلال تعيين الخليفة السياسي الأول للثاني وفقا لمبدا الوصية، وهذا أمر مخالف لكتاب الله وسنة رسوله في بيان من هم ولاة الأمر ((إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) (المائدة-55) وأغلب المفسرين يقولون أن أمير المؤمنين كان مصداقا لهذه الآية الكريمة فكيف أصبح عمر خليفة للمسلمين!! ومما يعضد هذه الآية وصية النبي الأكرم صلى الله عليه واله بالأئمة الكرام عليهم السلام من أهل بيته بأنهم ولاة الأمر من بعده كما  في حديث الثقلين (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ورغم كل ذلك، أخذت البيعة لعمر بن الخطاب بالإكراه من الناس مع وجود المعارضين لهذا الحال، لتنتج هذه البيعة القسرية بدعة شورى الستة بسقيفة ثانية مدروسة بعناية ليصل بها الخليفة السياسي عثمان بن عفان للحكم بانحياز كبير لعشيرته، وحدث ما حدث بعد ذلك حتى قتل عثمان، لينهال الناس على بيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مبايعين طوعا على إمرته وتوليه شؤونهم، وهكذا رد الحق لأهله ولنصابه ببيعة طوعية لا إكراه فيها، وكانت من الأغلبية الساحقة من المسلمين ولم يكره الإمام علي عليه السلام فيها أحدا على بيعته حيث كان يؤمن بوجود المعارضة إيمانا منه بحرية الاختيار وقبوله الرأي المعارض، والشواهد كثيرة على ذلك أعظمها قصة الخوارج في معارضتهم له وبرغم كل التدافع عليه للمبايعة حتى داسوا الحسنين عليهما السلام فيها؛ لكنه طلب أن تكون جهارا وبالمسجد النبوي ومما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في شأن مبايعته في خطبة من خطب نهج البلاغة :"فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كربيضه الْغَنَم‏" وكان   قد أصر على أن تكون بيعته على مرأى ومسمع من عامّة الناس وفي المسجد"، وقد بايع المسلمون في الكوفة من بعده الإمام الحسن عليه السلام على إمرتهم.
وليس هنالك أي اعتراض أو ممانعة من الإسلام في أخذ البيعة لولي الأمر من خلال مبايعة ممثله كما جرى في الحديبية عندما بايعت النساء أمير المؤمنين عليه السلام نيابة عن النبي صلى الله عليه واله، كذلك لمسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة عندما بعثه الإمام الحسين ممثلا عنه حيث بايعه أهل الكوفة على إمرة الإمام الحسين عليه السلام عليهم.

رأي الإسلام بالديمقراطية المعاصرة
في غياب الولي الشرعي المنصب من الله حاضرا الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف وإيمانا من الدين الإسلامي بالنهج الديمقراطي في انتخاب ولي الأمر السياسي، فإن الإسلام لا يتقاطع ولا يتعارض في نهجه مع أي مشروع انتخابي يأخذ بعين الاعتبار رأي الأغلبية في تعيين الحكام، كذلك مشاركتها في صنع القرار السياسي بما يحفظ كرامتها وحفظ حقوقها على ألا يتعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية.
إن البحث عن السبل السلمية الديمقراطية في الانتخاب تتماشى ونهج الإسلام في أخذ البيعة للولاة سابقا وقد لاحظنا كيف أن الإسلام "ديمقراطيا" في تعامله مع الناس في تعيين الحكام برغم أن الله هو الجاعل لهم، ولاحظنا أن الاعتراض والممانعة في عدم البيعة لا حرج فيه وأمره متروك لله في يوم حساب لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة.