يخوض الخائضون في موضوع الشعائر الدينية، مخاضا متشعبا، ويحملونه أكثر مما يحتمل، فهذا يسطحها محاولا إعدامها، وذاك يعظهما وربما يبالغ في ابتداع ما ليس منها.
وقد كثر الحديث في هذا الموضوع ـ الشعائر الدينية ـ حتى صار جدلا، سيما مع كل مناسبة منها يمكن أن تُعّد شعيرة أو طقسا دينيا؛ كإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف أو ذكرى أسراء نبينا الأكرم صلوات الله تعالى عليه وآله ومعراجه، وذكرى يوم المباهلة الشريف وذكرى غدير خم؛ وانتهاءا بالشعائر الحسينية كاستذكار الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته باللطم والبكاء، مرورا بما يُعّد كذلك ـ شعيرة ـ كالتبرك بقبور الأنبياء والأئمة والصحابة والصالحين وما الى ذلك، فضلا عن مشاهدهم ومشاهد الأحداث المهمة في الإسلام كالغزوات والحروب والمواضع التي شهدت أحداثا مهمة كغار حراء وغدير خم والمسجد النبوي وما الى ذلك، وجُر الحديث فيها الى غير ما يراد منها، حتى زُندق القائمين بها، وكُفر العاملين عليها، وربما صارت سببا يستباح به دماءهم.
وبغية فك الالتباس الحاصل في ذلك، خصوصا وأن مبحثها ـ مبحث الشعائر الدينية ـ من الأبحاث الجدلية المهمة والحساسة، نجد من الضروري منحها ما تستحق من اهتمام؛ بتسليط الضوء عليها وتجذيرها وتأصيلها أو فصلها عن الدين ـ إن كانت كذلك ـ ، حسب الأدلة الشرعية الداعية لذلك.
اصوليا؛ فإن معرفة حكم اسلامي ما، يستوجب بيان موضوعه أولا؛ ومن ثم كل ما له صلة وعلة به، كبيان الفعل الخارجي للحكم اذا كان واجباً، وبيان الفعل اللازم تركه إذا محرماً، وقبل كل ذلك، لا بد من قراءة لغوية لأصل الفعل، يُستبين من خلالها؛ معناه اللغوي، لنسقطه على الواقعة محل الجدل، ومن ثم معرفة حدود هذا المعنى وقيوده واطلاقاته، خصوصا في تلك المواضيع التي حمّلها الشرع المقدس معان أخرى، وجرها لقصود خرى، غير المراد منها لغويا، بجره لمعنى جديد قد لا يتسق ومعناه اللغوي، لتّكون لدينا مفهوما جديدا يحمل عنوان "الحقيقة الشرعية" قبالة "الحقيقة اللغوية" السابقة لذلك، لأن الأخير اذا بقي محافظا على اتساق المعنى الشرعي مع القصد اللغوي، فيمكن التمسّك بإطلاق معناه اللغوي ليكون حقيقيا و "شرعيا"، وأمّا إذا نُقل إلى معنى آخر، وصيغت منه حقيقة جديدة، فهذا يستلزم معرفة تلك الحقيقة وغض الطرف عن المعنى اللغوي قدر ما يريده الشرع القدس من العنوان الجديد؛ قصدا وليس لفظا، كمفردة "الشعيرة" الواردة في عدة مواطن تشريعية كالكتاب الكريم والحديث العصموي الشريف، في حين أن لها معنٍ لغويٍ أخرى.
فالشعائر لغة؛ مستلة من الشعار (العلم والإعلام) دون الدثار، وهو ما يوصف للمودة والقربة، ومن ذلك أشعر فلان عينه حزنا، أي ابكاها واشعرها بالدمع حتى صار البكاء شعارها، ومنه شعرت إذ اشعر شعرا، كقولك: "ليت شعري"؛ أي ليتي علمي.. وشعرت الشيء أي خبرته وأدركت خبره.. عقلته وفهمته.
والمشعر مستل من الشعيرة، وهو موضع المنسك من مشاعر الحج، والشعيرة هي الفعل الذي نشعر به الله بما نكّنُه له في انفسنا، والشعائر هي العلامات.. وتأتي الشعيرة بمعنى البدنة التي تهدى إلى بيت الله جل شانه، وجمعت على الشعائر، فنقول: "قد أشعرت هذه البدنة لله نسكاً"، أي: "جعلتها شعيرة تهدى".
وقد سُحب المعنى حتى صار شعيرة وشعائرا، كشعائر الحج التي تعني اعماله وعلاماته، بل أنه كل ما كان لله فيه طاعة ورضا، أي كل ما يتعبد به لله ويجعل منها اعلاما عن صاحبه بحضرة الله سبحانه، ويرى أخرون بانه "الشعائر" هي كل علم مما تعبد به، كما تأتي الشعائر بالمشاعر (الحواس).
وعلى هذا وذاك، فأن الشعيرة ـ وأصلها الشعار ـ هي إعلام حسي يُفصح عن صاحبه ونواياه بطريقة حسية شاخصة؛ تُبين المعنى المكنون أو السلوك المقصود، وهذا يستلزم أن لا تُحصر بالحج وافعاله، وهو ما كان بالفعل.
أما عرفا، فأن للمعاني اللغوي تطبيقات خارجية؛ شكلت لها وجودها القائم بذاته، حتى صيرت منها ـ هذه التطبيقات ـ عين المعنى ومقصده، قراح ينحني لها العرف لتكون حاكمة عليه كما على اللغة، لتوجِد من خلاله وجودا تكوينيا في ذهن الناس، خصوصا اذا ما طالتها يد الشارع المقدس بالإقرار او التغيير أو التعديل والتحسين والتهذيب كما في طلاق الرجل لزوجته، فان الشارع المقدس لم يتدخل في ذلك إنّما تركه للعرف بعد ان منحه الشكلية القائمة الآن ـ من الفاظ وضوابط مما يتداوله الناس ـ.
وبالعودة لموضوع الشعائر الدينية، فأن قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ .......))(سورة المائدة ـ 2)، وقوله: ((ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ))(سورة الحج ـ 32) يوضحان أن الشارع المقدس ترك المصداق الخارجي للمعنى، وهو ما منح الحق لعرف المتشرعة بالتسالم على ما يجدوه مصداقا للمعنى المقصود من قوله تعالى، سواء كان ذلك سلوكا أو ممارسة بما يجعل منهما ـ السلوك والممارسة ـ علامتين له؛ يُعلمان به الله والناس على ما يقصدون، وعليه فأن الشعيرة والشعار علامة وضعية حسية ـ قد تكون عرفية احيانا ـ، لها علقة ومعنى اعتباري ـ يقصده أهل العرف والعقل ـ تُفصح عن معنى ديني ما وتبرزه وتقصد منه التعظيم لا الإهانة.
من جهة أخرى، فإن الشارع المقدس حصر بعض المظاهر بالوصف الشعائري، فصارت شعيرة لا تقبل التدخل من العرف وأهله، لا سعة ولا قبضا، فقوله تعالى: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ))(سورة البقرة ـ 158) وقوله تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))(سورة المائدة ـ 2) جعلت من السلوكيات المشار اليها؛ مناسكا وشعائرا.. وكان سياق الحديث في هذه الآيات عن مناسك الحج وأفعاله وما يرتبط به؛ مما دفع البعض لحصر الشعائر الواردة في النص القرآني بفعل الحج، ومخصصة لمناسكه على سبيل الحصر، في حين إن وجود قرينة السياق الواردة في النصين القرآنين اعلاه لا ينهض بدليل يحصر المسمى بالعنوان العريض ـ الحج بالشعائرـ، خصوصا مع وجود ما يعارض ذلك من أدلة، وهو ما يجعل عنوان الشعائر اوسع من شعائر الحج ومناسكه وما يرتبط به، بدلالة شعائر الله الوارد في قوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))، وهو ما دفع البعض لسحب عبارة: "شعائر الله" الى جميع فرائضه، وبالتالي فأن القاعدة عامة ومطلقة لا يمكن تقييدها بقيد، وإن كان بوزن فعل الحج، وعليه فزيارة قبور أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام يمكن أن يُعّد شعيرة وتجري عليها أحكام المساجد، فضلا عن الشعائر الحسينية التي يقيمها جزء كبير من المسلمين بِنية التقرب لله.
واستناد لما بيناه في اعلاه، لا يمكن تخصيص الشعيرة بمناسك الحج فقط، بل ولا حتى بباقي العبادات، إنما لها شمول وعموم على كلّ الأوجه المشابهة دينيا على اعتبار أنّ الشعيرة والشعار هما الجنبة الإعلامية للفعل أو السلوك العبادي.
ولكل ما تقدم، صار لمفهوم الشعيرة جبنة وخصيصة تتمثّل في الإعلام عنها، وبالتالي فهي سلوك عرفي ووجودها اتّخاذي واعتباري؛ اي إن العرف والمداومة هما ما يمنحانها الصفة الشعائرية؛ فلا يكون الفعل والسلوك شعيرة ومشاعر، الا بعد أن تتخذ شعيريّتها بالانتشار والشيوع والقبول والتداول والاستعمال.
وتمتاز الشعائر بعدة خصائص، منها:
• تستبطن الشعيرة مصاديق السمو والرفعة للدين، والتعظيم له.. وبالتالي ما اعتاده العرف ومس بالتنقيص لا يعد شعيرة، والتعظيم مستفاد من قوله تعالى: ((ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شعَائِرَ اللهِ ....))(سورة الحج ـ32)، وقوله تعالى: ((.... لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ........))(سورة المائدة ـ 2)، أي لا تحلوا حراما، لأن الحرام هو عنوان للابتذال والإهانة.
• تأخذ الشعيرة قيمتها من الوضع والاعتبار، وتأخذ وزنها مما تعنيه وتُعلم به، من خلال العلاقة البينية بينها وبين السبب الداعي لوضعها، وهو ما جعل لبعض الشعائر خصيصة مميزة يحكمها المكان او الزمان، كما هو في الحج مثلا على خلاف الشعيرة الحسينية كالبكاء الذي ليس له زمان ولا مكان، على شريطة ان يكون هذا الوضع والاعتبار حلالا في نفسه بالمعنى الأعمّ، وشامل للمستحبّ والواجب والمكروه والمباح، في مقابل خصوص الحرمة.
• وعلى الرغم من إن الشعيرة هي إعلام لفعل او سلوك ديني عظيم، إلا أن أحكامها تختلف من شعيرة الى اخرى، تقديسا وتعظيما، فهتك الكعبة المشرفة اعظم من هتك المسجد النبوي، وهكذا دواليك.