شرعّ الشارع المقدس جملة من الشعائر الدينية وأضفى عليها شرعيته بإقراره وقبول العرف لها، بل وأضاف عليها حالة من التوسل ـ من الوسيلة ـ والتوجه بها لله سبحانه وتعالى، كنوع من الإعلام للقائم بها لربه وتقربا بها إليه؛ ومن هذه الشعائر ما جاء منها في بيت الله الحرام ـ من مشاعر ومناسك ـ، فجاء قوله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97))(سورة آل عمران ـ 96 ـ 97).
وبالإمعان في قوله تعالى آنف الذكر، نجد بأن الله سبحانه وتعالى ربط بشكل لا انفصام له بين الجنبة المادية ـ البيت الحرام بما هو مادي وجسماني ـ وبين أثره بنفس العابد تقربا لله ـ جنبة باطنية ونفسانية، فبداية الآية الشريفة يحدثنا عن بيت الله ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ على اعتباره الوضعي ـ موضع للتعبد ومقصد للحج ـ، بما يحتويه من دلائل وعلامات واضحة (ﺁﻳﺎﺕ ﺑﻴﻨﺎﺕ) كمقام نبي الله ﺍﺑﺮﺍﻫﻴﻢ عليه وآله ونبينا وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم، في حين إن الجنبة النفسانية تكمن في حالة الأمن والأمان المتحصلة من دخوله من قبل الحجيج والمعتمرين.
من جهة أخرى، فأن لفظة الحج الواردة في سياق الآية الشريفة: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) تستبطن هي الأخرى قصدا نفسيا، لأن ﺍﻟﺤﺞ في المدلول اللغوي يعني القصد، فحج اليه قصده، ولا يكون القصد إلا من وازع جواني، ومنه ما يقصد الحاج من دوافع نفسية وعبادية بقصد الرقبة من الله تعالى من خلال بيته الشريف، وهو ما جعل سنة أنبياء الله وشرائعهم كلها تدعو للحج (القصد لله)، كنوع من ﺍﻟﺘﻮﺟﻪ ﻭ ﺍﻟﺴﻴﺮ له سبحانه.
وفي مورد استنطاق القصود المتوالدة من فعل الحج في بيت الله الحرام، نجد جملة من الوسائل المؤدية لله قصدا، من خلال التوسل بها كوسيلة تقرب لله جل شأنه، وهي:
ـ المثوب.. والمثابة الواردة في قوله تعالى هي فعل الرجوع لله، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا، ما يعني أن قوله تعالى: ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس....))، يعني إن الله سبحانه وتعالى جعل بيته مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه, فلا يقضون منه وطرا.
ـ المقام.. ويراد به مقام نبي الله ﺍﺑﺮﺍﻫﻴﻢ عليه وآله ونبينا وآله أفضل الصلاة وأتم السلام، (( ......... اتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ......))(سورة البقرة ـ 125)، فتعبير المقام اشارة لمكان جغرافي محدد، على سبيل الحصر، مع الشأنية والتعظيم، المتوالد لها من النقطة الثالثة ادناه، بجعله مصلى.
ـ مصلى.. وهو تقييد للمكان من خلال جعله مرتقى لفعل العبادة المعنون بالصلاة، وما صبغه بهذه الصبغة الا تعضينا وشأنية له؛ خصوصا إذا ما علمنا إن ثمة ‘لزام لكل حاج ومعتمر بأن ﻳﺘﻮﺟﻪ إليه ﻓﻲ ﺣﺎﻝ صلاته وطوافه من خلال هذا المكان.
ـ التوجه بالمكين من خلال المكان.. أي إن التوجه لله يكون بوسيلة ابراهيم عليه وآله ونبينا وآله الصلاة والسلام، لأن شرف المكان جاء من المكين، أي أن شرف المصلى هذا، مستل من شرف وقيمة وقيمومة النبي ابراهيم عليه الصلاة والسلام فيه، ما يستوجب التوجه بنفس المكين ـ النبي ﺍﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ واله ونبينا وآله الصلاة والسلام ـ مع العرض بأن مقام ابراهيم عليه الصلاة والسلام آية، وهو المشرف بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيكف بنفس ابراهيم عليه الصلاة والسلام.. أنه لعمري الآية العظمى.
ـ الحجر.. أي حجر النبي اسماعيل عليه الصلاة والسلام، خصوصا إذا ما أضيف لهذا الحجر، تعظيم خاص، من خلال هذا المكان ـ موضع الحجر ـ قبرا لإسماعيل وأمه وسبعون نبيا أخرين ـ ما يجعل من لمس هذا الحجر والطواف حوله بمثابة زيارتهم عليهم السلام؛ بل أن وجودهم فيه هو التطهير المراد من قوله تعالى: ((......أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))، أي أنه ابقى وجود هذه القبور لأن فيها التطهير للمكان.. ومن ذلك يأتي الرد على من يرى في الطواف حول القبور عبادة لها، في حين إن الطواف هنا امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى من جهة، والتوسل بهم اليه من جهة ثانية.
ـ السعي.. أي ﺍﻟﺴﻌﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺼﻔﺎ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﺓ، ﻭﻓﻴﻪ تقرب لله من خلال أولياءه حسب ﻗﻮﻟﻪ تعالى ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ))(سورة البقرة ـ 158) ﻭتذكير بأدم وحواء عليهما السلام إذ إن "ﺍﻟﺼﻔﺎ" دلالة على كون أدم صفيا لله، وإن "المروة" دلالة على المرأة (حواء)، زوج أدم عليهما الصلاة والسلام، فضلا عما يحمله الأصل من دلالات أخرى ومنها سعي السيدة ﻫﺎﺟﺮ عليها السلام بابنها عليه السلام ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺼﻔﺎ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﺓ بحثا وتحصيلا للماء .
ـ ﺯﻣﺰﻡ.. وهو بئر ماء في صحراء قاحلة، ﺳﻦ الشارع المقدس ﺸﺮﺏ الماء منه للطائف ﺑﻌﺪ طوافه، كما يستبطن معنٍ آخر، مفاده طريقه نبعه (خروج مائه) بفعل حث الرضيع اسماعيل عليه السلام برجله، حال عطشه وبكاءه.
ـ كما توجد قصود أخرى في منسك الحج، كالوقوف بعرصة عرفة والإزدلاف للمزدلفة ومن ثم رمي الجمرات على الشيطان، والنحر (الذبح)، فضلا عن التوصل بالجدار المستجار وهي شعائر يأتي بها الحاج حال حجه اقراره بوحدانية الله وتقربا له من خلالها، خصوصا وإنها من افعال الأنبياء والأوصياء عليه الصلاة والسلام.