السبت - 19 ربيع الأول 1447هـ -
السبت - 19 ربيع الأول 1447هـ - 13 أيلول 2025


طوبى لمن بر بوالديه
24 صفر 1444هـ

حثت الشريعة الإسلامية ـ كتابًا وسنةً ـ الأولاد على بر والديهم والإحسان إليهما، فقال تعالى((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ))(سورة النساء ـ 36)، وقال تعالى: (( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ))(سورة الإسراء ـ 23)، وقال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ... ))(سورة العنكبوت ـ 8)، ففي هذه الآيات الثلاث يأمر الحق سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين، وهناك رواية يرويها أبو ولاّد الحنّاط عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، تبيّن المعنى المراد من الإحسان إلى الوالدين في هذه الآيات، يقول أبو ولاّد: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (( ... وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ))، ما هذا الاحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئًا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، فيشمل الإحسان هنا كل ما من شأنه أن يعد إحسانًا في نظر الشرع والعرف، من القيام بشؤونهما وإيصال الخير إليهما ودفع الشر عنهما والحنو والعطف وإدخال السرور عليهما، وإطاعتهما في غير معصية الله سبحانه وتعالى لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وهل تجب طاعتهما في غير معصية الله مطلقًا في كل ما يأمران الأولاد به أو ينهيانهم عنه أم أنّ لهذه الطاعة حدودًا؟ 

هناك آراءٌ لعلماء المسلمين في حدود هذه الطاعة، فيرى بعضهم أنّها تختص فيما يعرف بأوامرهما ونواهيهما الإشفاقية، فلو أمر الوالدان أو أحدهما الولد بأمر أو نهياه أو أحدهما عن أمر سببه شفقتهما عليه فتجب عليه طاعتهما في ذلك، ولا يجوز له مخالفتهما في أمرهما أو نهيهما له الناشئ من شفقتهما عليه، ومثال ذلك ما لو أنّ الولد أراد أن يسافر إلى بلد ما فمنعاه من السفر إليها شفة عليه لخطورة الطريق أو لكونها بلدًا غير آمنة فعليه في هذه الصورة أن يسمع لوالديه ويطيعهما، ولو سافر والحال هذه كان سفره حرامًا ويدخل ضمن دائرة سفر المعصية، فلذلك يجب عليه الإتمام في صلاته، وأما في غير الموارد الإشفاقية كما لو أنّ الولد أراد مثلًا أن يتخصص في دراسته تخصصًا علميًا، وأراد الوالدان أو أحدهما أن يكون تخصصه في الجانب الأدبي، ففي مثل هذا المورد لا تجب على الولد الطاعة، فله أن يختار التخصص الذي يراه مناسبًا ويوافق مزاجه ويرغب هو فيه.

ويرى آخرون أنّ وجوب طاعة الأولاد لوالديهم إنما تكون في خصوص الموارد التي يكون ترك طاعتهما قطيعة وعقوقًا، وأمّا في غير ذلك فتكون مستحبة استحبابًا مؤكدًا إلاّ إذا كانت هناك ضرورة عرفية تدعو إلى عدم الطاعة.

كما تجب المعاشرة الحسنة والمصاحبة بالمعروف على ما نطقت به الآية المباركة ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا))(سورة لقمان ـ 18)، فلا يجوز العداء والإيذاء، وأمّا الوجوب والتحريم بمجرّد الأمر والنهي فضلاً عن لزوم الاستئذان في كافّة الأفعال وإن لم يترتّب على تركه الإيذاء خصوصًا لو صدر من غير اطلاع منهما أصلاً، فهو عارٍ عن الدليل.

ومما ورد من النصوص القرآنية في الحث على الإحسان إلى الوالدين وبرّهما قوله تعالى ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ))(سورة لقمان ـ 14)، وقوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))(سورة الأحقاف ـ15).

وعن نبي الإنسانية صلوات الله تعالى عليه وآله، في تبيان أحبّ الأعمال إلى الله تعالى، فقال: " الصلاة على وقتها"ـ ثم أي؟ قال: "برُّ الوالدين"

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "برُّ الوالدين أكبر فريضة"

وثمة سؤال اخر يتبادر الى الذهن في هذا الصدد، هل الإحسان إلى الوالدين خاص بالوالدين المسلمين فقط أم أن الأمر به يشمل حتى غير المسلمين؟

إطلاق الأمر بالإحسان إلى الوالدين في الآيات الكريمة يدل على عدم تخصيصه بالمسلمين، بل هو عام وشامل لغيرهما أيضًا، ويدل على ذلك بعض النصوص الروائية، منها ما عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "ثلاث لم يجعل الله عزّ وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين".

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "بر الوالدين واجب فإن كانا مشركين فلا تطعهما ولا غيرهما في المعصية، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

وما روي عن زكريا بن إبراهيم أنّه قال: "كنت نصرانيًّا فأسلمت، وحججت فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: "إنّي كنت على النصرانية وإني أسلمت"، فقال: "وأي شيء رأيت في الإسلام؟"، قلت: قول الله عزّ وجل (( ... مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ ... ))، فقال: "لقد هداك الله"، ثم قال: "اللهم اهده – ثلاثًا" -  سل عما شئت يا بني، فقلت: "إنّ أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟"، فقال: " يأكلون لحم الخنزير؟"، فقلت: "لا ولا يمسونه"، فقال: "لا بأس، فانظر أمك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها ولا تخبرن أحدًا أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله"، قال: "فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلمّا قدمت الكوفة ألطفت لأمي، وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: "يا بني ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني فما الذي أرى عنك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟"، فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني إنّ هذا نبي، إنّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أمه إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه. فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه عليَّ، فعرضته عليها، فدخلت في الاسلام وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني أعد عليَّ ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها".

    ومما يؤسف له أنّ البعض من الأشخاص قد لا يكون عاقًّا لوالديه في حال حياتهما إلاّ أنّه ينساهما بعد موتهما، فلا يفعل شيئًا من الخيرات والمبرات ويهدي ثوابه إليهما، ومثل هذا الشخص قد يكتب عند الله عاقًّا حسب ما يستفاد من بعض الرّوايات، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ العبد ليكون بارًّا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجل عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عزّ وجل بارًّا".

وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه قال: "ما على أحد إذا أراد أن يتصدّق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين، فيكون لوالديه أجرها، ويكون له مثل أجرهما، من غير أن ينقص من أجرهما شيء".


والنبي صلى الله عليه وآله في هذا الحديث يوجّه الأبناء الذكور منهم والإناث إلى أنّهم إن أرادوا أن يتصدّقوا بصدقة فليجعلوا ثوابها لوالديهم، فإنّ الأبناء يحصلون على ثواب هذه الصدقة، وكذلك يعطي الله سبحانه وتعالى الوالدين من الثواب مثل ما أعطى الأبناء لا ينقص من ثواب الوالدين شيء.

وهذه الرّواية إنّما ذكرت الصدقة كمصداق وإلاّ فإن ذلك يعم كل أعمال الخير، فليجعل الأبناء ثواب كل عمل خير يقومون به للوالدين، والله سبحانه وتعالى بدوره كما أنّه سيعطي للأبناء ثواب ذلك العمل سيجعل للوالدين أيضًا مثل ثواب الأبناء.


من ثمار برّ الوالدين

وكثيرة هي الآثار والثمار التي يجنيها البار بوالديه، ومنها:

1. أنّ الله سبحانه وتعالي يزيد في عمر البار بوالديه، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: "من برّ والديه طوبى له زاد الله في عمره".

2. يخفف عنه سكرات الموت، ويدفع عنه الفقر والعوز ويبارك له في رزقه، فعن النبي صلى الله عليه وآله: "من سرّه أن يمدّ له في عمره، ويزاد في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه"، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من أحبَّ أن يخفف الله عزّ وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولًا، وبوالديه بارًّا، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبدًا".

3. وكان برّه بوالديه موجبًا لأن يتوب الله سبحانه وتعالى عليه، فينقل عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله" فقال: يا رسول الله ما من عمل قبيح إلاّ قد عملته فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: فهل من والديك أحد حي؟ قال: أبي، قال: فاذهب فبره، قال: فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو كانت أمه"

والمراد من قوله صلى الله عليه وآله: "لو كانت أمه» أنّه لو كانت أمّه على قيد الحياة وبرّها لكان لبرّه بها أعظم وأكبر الأثر في التوفيق إلى التّوبة وقبولها".

وأمّا ترك الإحسان إلى الوالدين وعدم برّهما والإساءة إليهما بأي وجه يعد نكرانًا لجميلهما فهو عقوق لهما وهو من الكبائر، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "عقوق الوالدين من الكبائر؛ لأن الله تعالى جعل العاق عصيًّا شقيًّا".

والعقوق من الذنوب التي لها الأثر الكبير في التأثير على الآثار الإيجابية للأعمال الصالحة والقضاء على الحسنات، فينقل أنّ رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: "يا رسول الله شهدت أنْ لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وآله من مات على هذا كان مع النّبيين والصدّيقين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه".

فيستفاد من هذه الرّواية أنّ عقوق الوالدين له الأثر الكبير جدًّا في القضاء على حسنات العبد، فهو محبط لها، ومبعد للمتصف به في يوم القيامة عن منازل عباد الله الصالحين، وموجب لأن يحشر مع الفاسقين والعصاة المذنبين والذين هم عن رحمة الله سبحانه وتعالى مبعدون وفي عذابه خالدون.

فهو ـ العقوق ـ بخلاف البرّ بالوالدين، فهو مكفّر للذنوب، لأنّه حسنة من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات كما هو صريح القرآن الكريم بقوله تعالى: ((........ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ..........))(سورة هود ـ 114)، ولذلك قال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله: "كن بارًّا واقتصر على الجنّة، وإن كنت عاقًّا فظًّا فاقتصر على النّار".

وينقل أنّ النبي صلى الله عليه وآله صعد ذات يوم المنبر، فسمعه من حضر عنده من المسلمين يقول وهو على المنبر: "آمين، آمين، آمين"، فسألوه: "يا رسول الله حين صعدت المنبر قلت: آمين، آمين، آمين، فقال: "أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، فقل آمين، قلت آمين. قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين. قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين".

ويظهر من هذه الرّواية أنّ برّ الوالدين والإحسان إليهما من أعظم موجبات غفران الذّنوب وحط السيئات، وأنّ عقوقهما معصية كبيرة وذنب عظيم، له كبير الأثر في حبط الحسنات، وهو موجب من موجبات الدّخول إلى النّار والعياذ بالله.



قد يهمك ايضا ـــــــــــــــــــــ