الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الإسلام وتجربته الأولى في بناء المجتمع
20 رجب 1443هـ
يتفق المؤرخون على ما أتسم به مجتمع الجزيرة العربية قُبيل البعثة النبوية الشريفة، من سمات القبيلة والتطرف والتمزق وحالة الاحتراب شبه الدائم فيه، مع افتقاده لملامح الحياة المدنية الآمنة، واستبدالها بالحياة القبلية المحكومة بالاضطراب على طول الخط، حتى أن الحروب فيها السمة البارزة، حيث كانت تستمر لعشرات السنوات إن لم نقل أكثر، ولأسباب واهية وسطحية كحرب البسوس مثلا، ناهيك عن الغزوات التي كانت تحدث بداعي تزاحم المصالح قرب مرابع الماء والكلأ، فضلا عن مئات الحروب القبلية كمعارك القحطانيين والعدنانيين، وربيعة وتميم، وقيس وكنانة، وغيرها الكثير.
وفي مراجعة اجتماعية بحثا عن السبب الحقيقي وراء هذه المعارك القبلية، يجد المتتبع لها بأن وراؤها سببا ذا علاقة بطبيعة انتماء الفرد لعشيرته ومن ثم لقبيلته، وتعنصره لهما بغضّ النظر عن مكامن الصواب عن الخطأ، والحق عن الباطل، والمنطقي عن الفوضوي.
وبطبيعة قبلية مثل هذا، ونزولا عند سيسولوجيا افراد هذ المجتمع القبلي، فمن الطبيعي أن تسود المجتمع العربي في حينها نزعة التطرف والتشرذم والانقسام التي تؤدي لا محالة الى حالة من الصراع والحرب شبه الدائمية، وهو ما يصعب على أحد ان يفكر وسطها بحكمة وتروي، وأن يجنح للسلام وتحقيق الأمان لئلا يحسب جبانا او ضعيف ولاء. 
ووسط هذه التركيبة الاجتماعية المعقدة، ومن جوانياتها المركبة، بُعث النبي الأكرم محمد صلوات الله عليه وآله نبيا يحمل لهم ملامح دينا سماويا جديدا، يبلغ به ما أنزله الله سبحانه وتعالى لهم، ويدعو للأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤسس لبيئة حياتية آمنة يتساوى فيها السيد والعبد، الغني والفقير، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي!
فراح لنبي الأكرم صلى آله عليه وآله وسلم يؤسس لبيئة إسلامية جديدة تقلل من حالة الانقسام الاجتماعي الذي تضخم وصار غولا اجتماعيا في المجتمع العربي، وهو ما دفعه لبحث عن المشترك الإنساني الذي يذوب الانتماءات الضيقة في بوتقة المجموع الإسلامي الكلي، فضلا عن الإنساني، ليؤسس بذلك هوية كبرى بعنوان الإنسان المسلم تذوب فيها الانتماءات القبلية والقومية والطبقية، ويتبنى القيم الإنسانية الحضارية التي تتجاوز بهذا البدوي مفاهيم الأنانية والعصبية القبلية والقومية. 
وعلى الرغم من حالة الانقسام الاجتماعي التي كانت سائدة في مجتمع الجزيرة العربية وتضخم الهويّة الخاصة لكل طرف من أطرافها، مع تغول مفاهيم الانتماء، عمل النبي الأكرم محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وآله وسلم على بلورة مفهوم الهوية المشتركة بين هذه القبائل بما يمكّن له من خفض درجة الانتماء العنصري فيها وتذويبها في جامع مشترك أخر غير القبيلة، دون ان يمس كيان القبيلة بالتسقيط او التمييع خصوصا وأنه كيانا اجتماعيا راسخا في النفوس، ما يعني ان الكيان البديل لا بد ان يتسع لكل الكيانات القبلية والقومية، دون ان يسمح لتسيد احدها على الأخر، وإلا كان ذلك مدعاة لرود فعل الأخرى، قد توأد مشروع الإصلاح الذي تبناه صلى الله عليه وآله، وهو ما كان بالفعل، حيث استطاع عليه الصلاة والسلام ان يجمع هذا الشتات في بوتقة الإسلام الموحد، الذي يتسع للجميع دونما تمييز انتمائي او طبقي او قومي او محلي، وهو ما صار بالفعل، حيث أخذ الإيمان موقعه المثالي  في نفوس أهل الجزيرة العربية، وتناسوا عنده صراعاتهم السابقة وغضوا الطرف عن اسباب تمايزهم، ملتفين حول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، معجبين بطرحه السماوي الجديد الذي نقلهم الى بيئة اجتماعية مغايرة للتي كانوا يعيشون فيها.
وتثقيفا لهم بثقافة الوحدة، عمد النبي الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله الى مواجهة ملامح التمييز العرقي والقبلي الذي كان سائدا في الجزيرة العربية، مجتثا بذلك الجذور التي تنميه، سواء ما كان منها نفسيا او فكريا او ممارسة، وعمل على محو اثارها أيضا نزولا عند مفهوم الآية القرآنية الكريمة ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(سورة الحجرات ـ13)، وقوله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))(سورة النساء ـ1)، فضلا عن تربيته لمجتمعه النشء بضرورة الابتعاد عن العصبية والقبلية المقيتة، فكان مما قاله عليه وآله الصلاة والسلام: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، فضلا عما أكده صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل مكة فاتحا: "أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، إن الله قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية، والتفاخر بآبائها وعشائرها، أيها الناس إنكم من آدم وآدم من طين، ألا وإن خيركم عند الله وأكرمكم عليه اليوم أتقاكم وأطوعكم له"، فضلا عن خطبته في حجه لبيت الله الحرام التي قال فيها: "يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
كما كانت له معالجات آنية حيال أي مستجد يمكن ان يستجد بالضد من مشروعه السماوي، فقد حصلت ذات يوم خصومة بين أنصاري ومهاجر، فاستقوى المهاجر بالمهاجرين والأنصاري بالأنصاريين، وكادت ان تنشب بينهم حربا، تأكل الأخضر واليابس، فقام النبي صلى الله عليه وآله بينهم غاضبا وقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة".
كما عمل عليه الصلاة والسلام في خلق شراكة فعلية بين هذه المكونات الاجتماعية، شراكة يمكن لها أن تبني المجتمع الإسلامي الذي ينشده النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله، بدء من اتخاذ القرار الجماعي، مرورا بتحمل المسؤولية الجماعية بشكل تكافلي، وانتهاء بالشعور المسؤول حيال هذا المجتمع حديث النشأة، وأهمية الحفاظ عليه. 
  فمنح الجميع حق أبداء الراي ضمن مبدأ الشورى الذي أعتمده عليه الصلاة والسلام ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))(سورة الشورى ـ 38)، وهو ما جعل من الجميع شركاء في المسؤولية، دون ان يشعر أحدهم بتميزه على الأخر، حيث كان باستطاعة كل مسلم منهم ان يدلي برأيه، بغضّ النظر عن قومه وقبليته ولونه، فكان لبلال الحبشي رأيه، ولسلمان الفارسي قولته.
وظيفا... اعتمد النبي الأكرم في منح المناصب على شكلية تختلف عما كانت عليه، إذ اعتمد عليه الصلاة والسلام مبدا الكفاءة والاستطاعة، وهو ما جعله يؤّمر اسابة بن زيد ـ وهو شابا ـ على جيش فيه كبار الصحابة، وهو بذلك يؤسس لثقافة اجتماعية جديدة قامها أنك الجميع متساوون في الحق والواجب. 
وبذلك تمكن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله ان يبني مجتمعه المسلم بشكلية مثالية، استطاعت ان تقضي على نوازع الفرقة والعنصرية التي كانت سائدة في حينها، بل ويجعل من هذه الشكلية أخلاقيات اجتماعية تصلح لكل مجتمع وفي أي زمان كان، وهو ما يفسر لنا عظمة هذا الدين وسر أتساع رقعته والمتدينين به، بالمقارنة مع غيره من الأديان، سماوية كانت ام وضعية، على الرغم مما يتعرض له من مؤامرات وضغائن، صريحة كانت أم خفية.