الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الإسلام في ميزان الحضارات... قراءة في النظم الاجتماعية والسياسية للإسلام
28 جمادى الاول 1443هـ
        عرّفت الحضارة سابقا بأنها سكن الناس في القرى والمدن وما يترتب على ذلك السكن من تغيرات وتطورات في نمط حياتهم بما يلبي حاجاتهم؛ نتيجة وضع الاستقرار الذي يعيشونه؛ على عكس حياة البداوة التي عنوانها الترحال والتنقل الدائم بحثا عن العشب والماء، والتي تفرض السكن عليهم في بيوت بسيطة تُصنع من الوبر أو الشعر ليخف حملها عند السفر؛ ومن المؤكد أن الترحال وعدم الاستقرار لا يتبعه أي تطور أو تقدم واضح يغير من نمطية الحياة إلا بشكل ضئيل يكاد لا يحسب وعلامة ذلك أنك تجدهم لليوم يعيشون على نفس الطريقة القديمة دون تغيير يذكر.
ونتيجة لتصاعد وتيرة التقدم والتطور الإنساني وعلى جميع الصعد بتقادم الزمن؛ فقد توسع مفهوم الحضارة الذي اعتمده علماء التأريخ والباحثين الاجتماعيين المتقدمين حتى شمل كل رقي وتقدم إنساني حدث نتيجة لتطور أساليب العيش التي حررها العقل الإنساني؛ وفي شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية؛ وما يهمنا في موضوعنا هذا هو مقارنة الحضارة الإسلامية في نظمها الاجتماعية والسياسية عن باقي الحضارات.

شكل الحضارة الإسلامية
قبل أن نضع الإسلام في ميزان الحضارات لأجل المقارنة، علينا أولا معرفة هل بنى الإسلام حضارة بالفعل؟ وعلى ما اعتمد في تشكيلها وأسسها؟ وماهي الأهداف التي سعى من لتحقيقها من خلال بناء تلك الحضارة؟ لتنجلي لنا الصورة واضحة كاملة لمن يريد قراءة موضوعية منصفة لحضارة الإسلام.
من الواضح أن الإسلام فعلا أسس لحضارة مدنية؛ بدأت علاماتها تظهر منذ هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة عام 622 ميلادية؛ حيث شكل عهد المدينة الجديد النواة الأولى لمشروع الدولة الإسلامية المدنية بتأسيس النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، وأول ما بدأ به عقد وثيقة مهادنة ومساكنة مع كافة الأديان والطوائف التي كانت تسكن المدينة من يهود ونصارى بل ومشركين بمختلف مسمياتهم؛ كون  الدين الإسلامي يعتمد في بنائه الحضاري على بعد عقائدي وأخلاقي كونه ذا مرجعية إلهية تعتمد القرآن الكريم كمنطلق ودستور ينظم أصول المعاملات وآدابها، والذي منه ولدت كل الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية؛ لعلة أنه الدستور الكامل والشامل الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ((.....مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ .........)) (الأنعام - 38)، فضلا عن اعتماده للسنة النبوية الصحيحة المبينة للكتاب ((.....وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل-44) إضافة لاعتماده العلم؛ والذي يتعامل معها وفق أصول منطقية واخلاقية تشكل أهم مبانيه، وبهذا اختلف الإسلام بحضارته عن باقي الحضارات الإنسانية بأنها أسسها على بعد عقائدي وأخلاقي مصدره إلهي على عكس الحضارات الإنسانية الأخرى التي اعتمدت في مرجعتيها الفكر الإنساني والتقدم العلمي والتكنلوجي فقط، كما تميز الإسلام كحضارة عن باقي الحضارات في كون رسالته جاءت للبشرية كلها دون تفريق أو تمييز بين جنس أو عرق؛ وهذا جاء بدعوة صريحة وواضحة لكل شعوب المعمورة للتعارف وتلاقح الأفكار لما يجعل الحياة سهلة سعيدة يعيشها الناس بحرية وكرامة على أساس تقوى الله ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات-13).

أسس حضارة الإسلام
يخوض الدين الإسلامي في كل جوانب الحياة البشرية، مشرعا قوانين ثابتة منظمة منها محكم لا يقبل التبديل ولا التحويل، ويؤسس على أساسها ضوابط تجعل الحياة يسيرة وسهلة تضمن حقوق الناس أجمعين؛ مسلمين وغير مسلمين، ومنها ما هو ظني الدلالات؛ يجعل حركة التشريع أكثر مرونة وديناميكية في الاستجابة للأحداث المستجدة والمتغيرات المتسارعة لتسمح لولي الأمر ان يأخذ بأي منها ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...........)) (آل عمران-7)، وهذا ما سهل إقامة العدل الإلهي في شريعة الإسلام؛ وشكل واحدا من أهم الأسس التي قامت عليها حضارته، خاصة  في بعدها الاجتماعي الذي يهدف  لتحقيق المساواة بين الناس بما يخص توزيع الثروات بينهم، وجعل التوازن أصلا شرعيا يتيح فرص العمل للجميع؛ دون تفريق، وشمل مبدأ العدل كذلك إعطاء العاملين حقهم دون سرقة المتنفذين من الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، كما وعمل على تقليص الفجوة بين أبناء المجتمع الواحد من خلال محو الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء بتشريعات تحد من طغيان الأغنياء وسيطرتهم على المال العام.
إن مبدأ المساواة الذي تعمل به شريعة الإسلام لم يكن ذا قيمة عند باقي الحضارات التي تعتمد الطبقية في منهجها؛ حيث تقسم شعوبها طبقات بحسب مقتضيات شتى؛ وهذا ما يجعل الحضارة الإسلامية متفوقة على باقي الحضارات؛ كونها تضم نظاما أخلاقيا جامعا شاملا لكل ما جاءت به الأديان السماوية الأخرى، إضافة لتفوقها الكبير على الأديان الوضعية باختلاف مشاربها، والتي هي نتاج عقول بشرية قاصرة تعجز عن الإحاطة التامة بشؤون البشر مما يؤدي لظلمهم.
ولما كان الإسلام يعتمد شرعة الإله العليم الحكيم الذي بشرعه المحيط بحاجات عباده؛ فقد سجل الإسلام التفوق على باقي الديانات الوضعية أجمعها كون الإله هو الأعلم بحال الناس؛ وبما يوافق سير حياتهم بانتظام.
ويُعد العلم ـ حسب الحضارة الإسلامية ـ واحدا من أهم الأسس التي قامت عليها حضارته، وكان من مميزاتها المتفوقة أنها لا تفضل مصلحة الدولة أو النظام على مصلحة الشعب؛ حتى أنها تعتبره مبدأ مرفوض شرعا كونه يخل في بنيتها الأخلاقية العادلة التي لا تسمح بتمرير أو تبرير الوسائل الشيطانية السيئة في تحصيل المنافع، كالذي يقره المبدأ المكيافلي في أن الغاية تبرر الوسيلة وهذا ما تعتمده باقي الحضارات الوضعية والذي فيه إساءة كبيرة لمصالح الشعوب. 
إن مبدأ الحرية الذي يمثل أسا مهما في حضارة الإسلام؛ ـ الذي مصدره القرآن الكريم ـ قد منح الفرد مساحة خصبة في اعتناق أي ديانة يرغبها؛ دون حرج أو ضغط من أي جهة؛ شرط عدم اعتداءه على الغير ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) (الكافرون-6)، فضلا ع ن الحرية التي أعطيت له في إقامة الشعائر، وهذا ما قرره ونفذه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في وثيقة المدينة المنورة.
وإيمانا من الإسلام بالحرية الفردية؛ وبنفس الضابطة الأخلاقية في عدم الاعتداء على الأخر جاء في النص القرآني ما يؤكد حرية المشيئة للفرد بين الإيمان والكفر ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..........)) (الكهف -29)، وعزز هذا المبدأ القول بأن الحضارة الإسلامية تميزت وتفوقت على باقي الحضارات الإنسانية بأنها بنيت على أسس أخلاقية تحترم حريات الجميع؛ وهذا لا ينفي اهتمامها بالعلم والعلماء؛ حيث حفزت الناس على استخدام العلم والتكنلوجيا في البناء والإعمار ((أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)) (لقمان -20). 

النظام السياسي في الإسلام
للنظام السياسي الإسلامي لون خاص تدار به شؤون الدولة والناس؛ يسمى بنظام الشورى الذي يعتمد في قوانينه وتشريعاته على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وآله؛ والغاية من هكذا نظام هو ضمان مشاركة أكبر عدد من الناس في صنع القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى العسكري للدولة؛ وهذا ما يشابه أو يقترب من صيغ النظم الديمقراطية المعمول بها حاليا، كما ويسمح نظام الشورى بمراقبة تنفيذ تلك القرارات منعا للتفرد بالحكم وتحقيقا لمبدأ المشاركة في صياغة القرار وعلى جميع الأصعدة ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) (الشورى -38).
ويضمن مبدأ الشورى الخروج بأفضل القرارات التي تخدم حياة الناس والدولة كونه يتحرك بشكل جماعي تشاوري لا تفرد فيه بأخذ القرار؛ ويكون الحاكم مأمورا فيه بالحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى؛ ومن يخرج عاصيا عن هذا الأمر يعتبر كافرا ((........ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) (المائدة -44) وظالما وفاسقا عن أمر ربه ((.... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (المائدة -47). 
وعليه  عمدت الدولة الإسلامية إلى مبدأ فصل السلطات الثلاث - التشريعية والقضائية والتنفيذية - فالسلطة التشريعية تعتمد في سياقات تشريعها على ما جاء في الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة والاجتهاد فيما يستجد عليها من مواقف بما لا يخالف ثوابت الشريعة الإسلامية، أما السلطة القضائية فهي ملزمة ـ بقضائها ـ بما جاء في الكتاب والسنة ولا دخل للسلطة التنفيذية بأعمالها؛ وإن كان القضاة ينصبون من عندها؛ لا بل لها الحق في مقاضاة ولاة الأمر الذين يتصدرون دفة الحكم، أما السلطة التنفيذية فهي من ضمن صلاحيات ولي الأمر المنتخب وحكومته التي عليها تنفيذ أوامر القضاء وما تجده مناسبا لأمر المسلمين بالمشاورة.