الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


ملامح الدولة العلوية العادلة
26 صفر 1442هـ
تعكس تجربة الإمام علي عليه السلام في الخلافة، الصورة الحقيقية لما يريده الإسلام من نظم شؤون الأمة، واقامة صرح الدولة الإسلامية الحقّة، ما يجعل منها تجربة رائدة وفريدة ونوعية، خصوصا وإنها حدثت بالتزامن مع محور الطغيان السياسي الذي تبناه المنهج الأموي آنذاك في الشام، إلا إن عدالتها صيرت منها المثال الأروع في سياسة العباد وإدارة شؤون البلاد، على الرغم من مما واجهته من حروب عسكرية وأخرى اقتصادية واجتماعية، فضلا عن الحروب الباردة التي ما خمد أوارها طيلة تسنمه عليه السلام مقاليد الأمور، سواء ما كان منها من المعسكر الداخلي المناوئ من بني قريش، أو المعسكرات الخارجية كالشام والبصرة.
وعلى الرغم من أن أمير المؤمنين عليه السلام كان الأزهد في تسنم السلطة، والأبعد عن الرغبة فيها، حتى أنه رد على المطالبين له بالبيعة بعد مقتل الخليفة الثالث، بالقول: "دعوني والتمسوا غيري؛ واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب؛ وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميرا".. إلا أنه لم يغفل عن إدارتها ـ حال اضطراره للقبول بها ـ بشكل احترافي عادل لم يأتي التأريخ بمثله، بدءا من خلقه للبيئة الملائمة لإدامة استقامة الأمة وثبوتها على النهج النبوي الصحيح، باعتبار إمامته عليه السلام تتمة للنبوة المحمدية، وانتهاءً بتأسيس ما تحتاجه المرحلة من إصلاحات بعد المفاسد التي حدثت ابان الخلافات السابقة له، وهو ما جعل مشروعه السياسي التتمة الحقة للدولة النبوية العظيمة التي ارسى قواعدها نبي الإسلام محمد صلوات الله عليه وآله. 
وقد أنتهج عليه السلام سياسة حكيمة مفادها ضرورة أن ينال الحكام بيعة المحكومين عن رغبة ووعي، بعيدا عن الترغيب والترهيب، وهو ما صار اليه الأمر، فتراه يقول عليه السلام: "أيها الناس إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب أستُعتِب فإن أبى قُوتِل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار".. إذ يؤكد بشكل صريح لا لبس فيه على رفضه لأي بيعة يحصل عليها الحاكم ـ وهي اشارة لمن سبقه وتبعه بل ومن عاصره في الشام ـ بمعزل عن الرعية، لأن الأمر لها ومنها. 
وعلى الرغم من الصعوبات السياسية والعسكرية التي حدثت أبان خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، وتسنمه لمقاليد الأمور، فأنه عليه السلام لم يأل جهدا في ارساء اسس الدولة المتينة، معتمدا على العناصر الجوهرية المهمة في اقامة الدولة وبسط نفوذها برضا من المحكومين، ومن هذه العناصر: 
1. السياسة المالية العادلة..
حيث أخذ عليه السلام على عاتقه اصلاح النظام المالي السابق القائم على أساس المحاباة بالعطاء، والتفريق بين الناس وفقا للقرابة والرفقة والصحبة، مما اضطره عليه السلام لإحداث تغييرا جوهريا بالمفاهيم الحقوقية من الوجهة المالية، وهو ما رمم الثقة بين الجمهور من جهة والسلطة الحاكمة من جهة ثانية، خصوصا بعد أن أنتهج منهج المساواة بين الناس ـ على طريقة النبي محمد صلوات الله عليه وآله ـ عوضا عن سياسة القسمة بينهم بالمفاضلة وفقا لمعايير ليست من الحق والعدل بشيء، واستمراره على ذلك على الرغم مما أفرزه ذلك من ردة فعل كبيرة وبلبلة خطيرة صنعها له الذين تضررت مصالحهم من هذه العدالة، خصوصا المنتفعين واصحاب البلاط السابق، وهم بطبيعة الحال أسماء كبيرة وكثيرة وقريبة من الخلفاء السابقين. 

2. السياسة الإدارية الرشيدة..
عمد عليه السلام لسياسة رشيدة في تقليد المناصب الإدارية في الدولة، وفقا لمنهج القدرة والاستطاعة المحكومين بالإنصاف والعدالة، وهو ما تطلب منه عزل القادة السابقين ممن تقلدوا مناصبهم وفقا للأهواء القبلية او المصلحية خصوصا في الجهاز الحكومي العلوي، كونه راسما للساسة العامة لما دنى منه، حيث ابعد النفعيين والانتهازيين واستبدلهم براشدين يتسمون بالإنصاف ويتحلون بمخافة الله جل شأنه، فضلا عن شعورهم العالي بالطبقات الدنيا، وفي هذا السبيل قال قولته العظيمة: "والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري".

3. تقويم وإصلاح النظام الاجتماعي..
اعتمد الخلفاء السابقين على سياسة رص الصف القبلي وتشجيع النزعة العشائرية؛ استصناعا لجدار صد متين قبالة عوام الناس، وهي سياسة لا محل لها من الدين، خصوصا وأن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله كان قد أكد على أن "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، وهو ما طبقه عليه السلام بشكل عملي، من خلال إعادة المجتمع للألفة التي عهدها في زمن نبي الرحمة صلوات الله عليه وآله، وتجذير قيم الإسلام الأصيلة ـ القائمة على المساواة العامة والآلفة المجتمعة ـ حتى قال في سبيل ذلك قولته العظمى: "الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".

وقد حقق عليه السلام، وفقا لبرنامجه الإصلاحي هذا، رضا الأغلبية، خلا من تحيز لسلاطين الجور خيفة او رغبة مادية، ناهيك عن احترامه لرأي الأقلية مهما كانت، ومن ذلك الخوارج مثلا، حتى أنه قال: "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة وإنما عماد الدين وجماع، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم"، ليكون بذلك أول قائد مسلم ـ بل الأوحد ـ يؤسس لنظام حكم عادل يستند الى حجية الأغلبية دون ان يظلم الأقليات، وإن كانت جائرة وباغية، وهو ما جعل أعدائه يشهدون له بهذه الفضيلة قبل شيعته محبيه.