من البديهي أن يجتر الإيمان
بالإسلام، الإيمان بكل ما جاء في دستوره العلوي (القرآن الكريم)،
ولأن كل ما في القرآن الكريم إنما هو كمالات هداية، وهذا ما لا
يستطيع المسلم بلوغه بذاته؛ لفقر يعتريه، ما دفعه لالتماس ذلك من
خالقه جل شأنه، في كل صلاة، من خلاله طلبه الهداية للصراط
المستقيم؛ صراط الحق، كي ينال بهذه الهداية؛ رضا الله وسلامة
العقيدة والتوفيق للعمل الصالح المقترن بها، لذلك كانت دعواه على
الدوام في كل صلاة ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))
(الفاتحة - 6) ولأن الصراط المستقيم طريق هداية كامل لا يقبل
التبعيض ولا التأويل الذي قد يفرضه المزاج المتقلب للإنسان، بسبب
ميل النفس الأمارة بالسوء، لذلك وجب على المسلم المتيقن من صحة
إسلامه أن يؤمن بما جاء في الصراط، كاملا غير منقوص، ومنه الإيمان
بعالمية الرسالة إذ أنها للناس كافة كما وردت في النص القرآني
الكريم ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ)) (سبأ-28).
وتكون عالمية الرسالة هذه، مقدمة
تفرض على المسلم تقبل الآخر المختلف معه في العقيدة، لأن الخالق
هو من فرض سنة التعدد والاختلاف هذه، بين الأجناس والالوان
واللغة، وهي أمور فطرية لا دخل للناس بها، وقد جاء ذكرها
بآية في القرآن الكريم ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)) (الروم-22)، ولأنه اعتبر
سنة الاختلاف آية دالة على خالقتيه، كما هي آياته في خلق السموات
والأرض، لذلك أصبح الإيمان بسنة الاختلاف واجب على كل مسلم، من
خلال الإقرار به من أجل التعايش السلمي مع الأخر، لحين يوم الفصل
حيث يفصل الله بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون ((إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد)) (الحج-17).
كذلك تفرض سنة الاختلاف على
المسلم التحاور بالتي هي أحسن مع مخالفيه، ليجسد بسلوكه الشخصي
أخلاق الإسلام ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (النحل-125) وبالأخص الذين
يعيشون في بلدان غير مسلمة، إذ عليهم الحمل الأكبر في تحمل عبئ
مسؤولية تجسيد السلوك الإسلامي ونقل الصورة الحسنة عن الإسلام
والمسلمين، خصوصا وأن بعض المسلمين يعيشون بتماس يومي مع غير
المسلمين، لذلك وجب الإسلام عليهم معرفة ما تقدم والالتزام بكل ما
سبق ذكره ومنه يفترض الالتزام بكل القوانين السارية في تلك
البلدان على ألا تتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية السمحاء، بما
يثبت للأخرين بأن الإسلام دين حضاري وأخلاقي يحث معتنقيه على
احترام النظام ورّد الجميل للدولة المضيفة لهم، من خلال التقيد
بنظامها الأخلاقي والاجتماعي، لذلك كان الواجب الديني
والأخلاقي يحث المسلمين المهاجرين على أن يبحثوا عن كل المشتركات
الإنسانية والأخلاقية التي تجمعهم بغير المسلمين، كي يعيشوا معهم
في أمن وسلام، مقرين بسنة الاختلاف في التشريعات ما بينهم؛ تبعا
لاختلاف العقائد، إذ أن بعض المباحات عند غير المسلمين لا يقرها
الدين الإسلامي بل يحرمها، وعليه فأن مسألة الابتعاد عنها، واجب
لازم، كتعاطي الخمر والزواج المثلي، وأكل لحم الخنزير، وأكل
اللحوم غير المذكاة (التي لم يذكر اسم الله عليها عند الذبح) أو
حتى التي لم تتوافر فيها شروط الذبح كالمخنوقة أو النطيحة
وهكذا.
كما إن وجود عقائد الإلحاد أو
عقيدة اللادينيين أو وجود باقي الديانات السماوية كاليهودية
والمسيحية وباقي الأديان الوضعية في تلك البلدان يفرض على
المسلمين التفقه في دينهم من باب التحصين العقائدي والفكري، من
خلال زيادة المعرفة والتفقه لأن ذلك ضرورة قصوى لتحصينه
معرفيا.
كم جهة أخرى، فأن على المسلمين
عدم التأثر بعقائد وأجواء غير الإسلامية التي قد تختلف في
ثقافاتها ومعتقداتها عنهم، إذ أن المتربصين بهذا الدين لا يدخرون
جهدا في تسفيطه وفي كل المجالات، وما تشكيلهم للتنظيمات الإرهابية
باسم الإسلام زورا إلا مثالا حيا على ذلك، والهدف دائما لصق تهمة
الإرهاب فيه وتنفير الناس من هذا الدين، وإبعادهم عن عقيدته
السمحاء.
لذلك وجب على كل مسلم من الذين
يعيشون في ديار غير المسلمين الاقتداء بالقرآن الكريم وبسنة
الرسول الأعظم صلى الله عليه واله الصحيحة الموافقة للدستور
((.................وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتقوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر-7) في بيان مبادئ واخلاق الإسلام
وعقيدة المساواة بين البشر باختلاف أجناسهم وألوانهم من خلال
الاطلاع على آيات الذكر الحكيم بهذا الشأن وتلاوتها عليهم، كذلك
في بيان أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه واله في المساواة
وقبول الآخر إذ يقول : "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"،
وهذا البيان لا يكون إلا بالاندماج مع المجتمع غير المسلم وبيان
ذلك بالسلوك¬ الواقعي اليومي من خلال طاعة القوانين في تلك
المجتمعات والالتزام بالمشتركات الأخلاقية فيما بين الطرفين،
كتأدية الأمانات والإخلاص في العمل والإحسان للغير وحسن المجاورة
والمزاورة فيما بين المتجاورين وبذل روح التعاون والتآخي معهم،
وهذا ما يقره الإسلام كمبادئ وقيم أخلاقية تشكل مشتركات إنسانية
بين جميع البشر، أكدها الكتاب الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه
واله.
ولا تفوتنا الإشارة للاقتداء بسنة
عباد الله الصالحين من الأئمة الأطهار من أهل بيت النبوة حيث
جعلهم الرسول الكريم في الحديث المبارك عدل القرآن الكريم ((إني
تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب
الله وعترتي أهل بيتي....) لذلك كان خلقهم خلق القرآن، والتأريخ
مليء بالحوادث والمشاهد التي تظهر إنسانيتهم مع غير المسلمين
ومنها أسلوب محاوراتهم التي كانت تجري بالتي هي أحسن مما دفع
بالكثير لاعتناق الدين الإسلامي.
التعايش السلمي مع غير المسلمين
في زمن الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله...
تعرض المسلمون في بداية الدعوة
الإسلامية لألوان العذاب على يد المشركين في مكة المكرمة بغضا بما
يدعون إليه من دعوة الإسلام، ولقلة أعدادهم آنذاك، ولأجل الحفاظ
عليهم وعلى دوام استمرار الدعوة، وإيمانا من الرسول الكريم صلى
الله عليه واله بالمشترك الإنساني بين جميع البشر وخاصة أهل
الديانات السماوية، فقد أمر أصحابه بالذهاب الى الحبشة للخلاص من
بطش قريش المشركة بالله ، لوجود ملك عادل فيها لا يظلم عنده أحد
وقد أوصى أصحابه بالسيرة الحسنة بين الناس ممن هم على غير ملتهم،
إذ كانوا على النصرانية، فضلا عما اوصاهم به بخصوص بيان الدعوة
الإسلامية لملك الحبشة ولشعبه باعتبارها دعوة سماوية نزلت على
النبي محمد صلى الله عليه واله في مكة، كون الملك كان نصرانيا
يعرف ما معنى رسالة سماء، وقد خاض المهاجرين معه حوارا دينيا
مطولا وبالتي هي أحسن، حتى أيقن بدعوتهم على أنها دعوة سماوية
ليكرمهم بعدها ويأويهم في بلاده، وهذا دليل يؤكد على أن قدوتنا
الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله كان يؤمن
بالتعايش السلمي مع الآخر غير المسلم محترما عقيدته، لا بل يحض
على احترامه واحترام خصوصياته شرط عدم اعتدائه.
كما شكلت صحيفة المدينة التي
كاتبها الرسول الكريم صلى الله عليه واله مع كل أطياف المجتمع
المدني آنذاك، دليلا آخر له الأثر الكبير على تجسيد معنى قبول
الآخر المختلف معه بالعقيدة، حيث كانت ـ الوثيقة ـ عهد مسالمة بين
المختلفين في عقائدهم من يهود ونصارى، بل ومشركين، إيمانا منه
بضرورة التعايش السلمي ما بين الجميع، خصوصا وأن صلوات الله عليه
وآله، اشترط فيها عدم النقض من أي طرف كان، لتمنع بثباتها
الاعتداء ما بين المتعاهدين، وبما أن الرسول الكريم صلى الله عليه
واله هو القدوة الحسنة فعلى جميع المسلمين الاقتداء بأقواله
وسيرته العطرة.