السبت - 17 رجب 1446هـ -
السبت - 17 رجب 1446هـ - 18 كانون الثاني 2025


الفراهيدي ومعجم العين.. الريادة العربية
19 جمادى الاول 1440هـ
تشير الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية إلى أن منطقة الشرق الأدنى هي أول من عرفت المعاجم، فقد سبق الصينيون غيرهم بوضع معجم ضمّ أربعين ألف كلمة، وذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وكان هذا المعجم من تأليف (باو نشي).
كما اخترع الآشوريون البابليون معاجم تحفظ لغتهم خوف ضياعها، وذلك حين استبدلوا نظام الكتابة الرمزية القديمة بنظام الإشارات المقطعية أو الألفبائية ذات القيم الصوتية، فغمض عليهم ذلك واحتاجوا إلى من يشرحه فجمعوا قوائم الإشارات المقطعية وعرفوها بما ساروا عليه في النظام القديم. 
ولم تكن لغتهم السومرية القديمة قد اندثرت بعد نتيجة عناية الكهنة بها في شعائرهم الدينية، فصنفوا ألفاظها في قوائم رأسية حفروها على قوالب الطين وأودعوها مكتبة آشور بانيبال الكبيرة في نينوى، وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد، وقد عثر عليها المنقبون في هذه المكتبة وصارت مصدر معلوماتهم عن الآشوريين.
ثم يأتي دور اليونان الذين ألفوا معجماً خاصاً بألفاظ هوميروس، وهو من تأليف أبلونيوس الغراماطيقي، كما وضعوا معاجم خاصة بالشعراء والخطباء الأتيكيين ومعاجم خاصة بأبقراط حتى ظهر معجم اللغة اليونانية كاملاً عام 177 للميلاد وهو من تأليف يوليوس بولكس.
أما عند العرب فكان أول معجم عربي ظهر إلى الوجود هو معجم (العين) الذي ألّفه الخليل بن احمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري، فاعتمده العلماء واللغويون ونسج على منواله كبار علماء اللغة وأعاظم الموسوعيين. 
و(العين) الذي يعدّ أول معجم في العربية قد أنجزه الخليل في زمن لم تكن أذهان الدارسين ممهدة لتقبل مثله، مثل أي عمل يبتكر، خاصة أن الخليل قد انفرد بإنجازه، ولذلك بقيَ بعيداً عن متناول رواة اللغة السلفيين، ولم يخطر على بال أحدهم في ذلك الوقت أن يُصنّف كتاباً يكون مدار كلام العرب وألفاظهم ولا يخرج منها عنه شيء، كما لم يكن مما اتجهت أذهانهم إليه وانصبت عنايتهم به، وقد أكد ذلك ابن دريد في مقدمة جمهرته (ص3) فقال: "... وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي رضوان الله عليه كتاب (العين) فأتعب من تصدّى لغايته وعنّى من سما إلى نهايته فالمصنِّف له بالغَلَب معترف، والمعاند متكلف، وكل من بعده له تبع، أقرّ بذلك أم جحد، ولكنه رحمه الله ألف كتاباً مشاكلاً لثقوب فهمه وذكاء فطنته".
لقد أثار (العين) ضجة عظيمة عند وصوله إلى البصرة، وتشعّبت فيه الآراء بين الذم والمدح، وافترقت أيضاً بين تصديق نسبته إلى الخليل وعدمها، وبقي هذا الخلاف مدة طويلة، فقد ذهب الناس حينها في مؤلف الكتاب إلى فرق ثلاث تؤيد أولاها نسبته إلى الخليل، وتنكر ثانيها ذلك، أما الثالثة فأخذ موقفاً وسطاً. 
أما أبرز من أيد نسبته إلى الخليل فهم: أبو العباس المبرّد وابن درستويه والزجاجي وابن دريد وابن فارس وابن عبد البر وابن خير وابن الانباري وابن خلدون، ولا يسعنا هنا ذكر أقوالهم في ذلك. 
أما المنكرون لهذه النسبة فأبرزهم: أبو حاتم السجستاني والنضر بن شميل ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وابن جني وأبو علي القالي والأزهري، وكان من هؤلاء متشدداً في إنكاره كأبي حاتم السجستاني وأصحابه الذين ما إن يكاد يذكر كتاب (العين) حتى تنهال الشتائم والتهم جزافاً عليه وعلى مؤلفه!! 
ولا يمكننا أيضاً هنا ذكر أقوالهم كلها لذا سنكتفي بالبعض منها فإنها تكاد تغني عن بقية الأقوال لتشابهها فقد كانت حجة إنكارهم نسبة (العين) إلى الخليل هي: "إنه لم يروَ هذا الكتاب عن الخليل ولا روي في شيء من الأخبار إنه عمل هذا البتة"!! بينما نرى في مقدمة (العين) استهلالاً واضحاً يصرح بنسبة الكتاب إلى الخليل وفيه يفسر عمله وغرضه فيه ومنهجه وترتيبه للحروف. 
ثم تتبين صحة النسبة عن طريق الرواية فقد صرح ابن فارس في المقاييس (ج 1 / ص3) بأنه روى كتاب (العين) عن علي بن إبراهيم القطان عن عدّة رجال ذكرهم عن الليث عن الخليل، كما ذكر مثله ابن درستويه في الفهرست (ص /43)، والسيوطي في المزهر (ج1 / ص46) عن أبي علي الغساني وينتهي طريق الرواية إلى الخليل. 
كما كانت حجتهم إن بعض معاصري الخليل لم يرو الكتاب، وسمّى بعضهم من الذين لم يكونوا بالمتلقين والمستوعبين لكل ما هو جديد كالأخفش رغم ــ علمهم ــ إن الاخفش الذي كان معاصراً للخليل إلاّ إنه لم يأخذ عنه ولم يحكِ عنه فكيف يحمل عنه علمه في (العين)؟ وهل إن عدم علمهم بكتاب (العين) وعلم اشياخهم هو عدم وجوده؟ 
لقد تمسكوا بأوهى الأسباب ليوجهوا الأذهان إلى إنكاره ورفضه! ومنهم من أتخذ من إنكاره وسيلة إلى نهب ما احتواه ليقيموا عليه كتباً زعموا إنها لهم كالأزهري والقالي، وكان الأزهري من أشد المنكرين لنسبة العين للفراهيدي وأكثر أصحاب المعجمات إفادة منه. 
وقد قال في زعم إنكاره للخليل في مقدمة التهذيب (ص28): "إن الكتاب ليس للخليل وإنما هو لليث ابن المظفّر نحلهُ الخليل لينفقه باسمه ويرغّب فيه من حوله"! 
وهذا القول لا ينطبق بتاتاً على الخليل الذي عُرِف بشدة الورع والزهد وعاش زاهداً فقيراً حتى إنه كان يقيم في خصّ من أخصاص البصرة، وبلغ من شدّة زهده أن والي الأهواز بعث يستدعيه لتعليم ابنه فرفض وأخرج خبزاً يابساً وقال لرسول الوالي: "ما دمت أجده فلا حاجة لي إلى الوالي". 
ولكن الأزهري لا يقتنع بذلك فيقول عن هذه الحادثة بـ "أن الخليل تصنع الزهد لكي يثير الدخان حول (العين)، ويكّدر الهواء من حوله!"، وقد نسي الأزهري أن الدخان الذي اصطنعه هو لا بد أن ينقشع والزوابع التي أثارها حول العين لا بد أن تسكن لتظهر الحقيقة المجلاة، فرغم إن الأزهري اقتبس مقدمة (العين) بكل تفاصيلها وجعلها مقدمة لمعجمه ونقل منها رأي الخليل في حروف العربية وأحيازها ومخارجها وصفاتها وتأثير بعضها في بعض ونسبها إلى نفسه، كما أخذ عنه تصنيف الكلم من حيث عدة أصوله وما يأتلف من الأصوات وما لا يأتلف إلى غيرها من الجديد الذي جاء به الخليل في معجمه، إلاّ إنه أبى ذكر الخليل عندما جمع في كتابه (تهذيب اللغة) الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات حيث بدأهم بأبي عمرو بن العلاء وختمهم بنفطويه وتجاهل قول ابن سلام في علم الخليل عندما قال: "استخرج من العروض واستنبط منه ومن علله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم". 
ولعل هذا القول كان أشد عليه من السيف ولم يستطع تجرعه ولو على مضض فتجنبه رغم أنه يعلم إن كتابا في اللغة لا يحمل اسم الخليل هو كتاب فيه نقص، وقد تنبه الدكتور عبد الله درويش إلى هذا التحامل من قبل الأزهري على الخليل فقال في كتاب المعجم (ص56): "نرى أن الأزهري في تهذيبه حينما لم تسعفه الأمور بما يرى به الخليل كما فعل بابن دريد وغيره رأى ان يتحاشى ترجمة للخليل حتى لا يتعرض لذكر (العين) تحت اسمه بالمرة وعندما نرى في مقدمته ذكر الخليل فإنما كان ذلك عرضاً عند الكلام على آخرين كتلاميذه مثلاً ونرى قبل أن نتعرض للسبب الرئيسي لتجنّب الأزهري ذكر الخليل أن نذكر إن تعصّب الأزهري لم يكن فقط ضد كتاب (العين) أو ابن دريد الذي رأى إن (العين) من تأليف الخليل، بل تعدّاه هذا إلى كل من ألف في المعاجم من قبله".
وهكذا كانت الحال مع أبي علي القالي الذي أشاع نفي نسبة (العين) إلى الخليل في بلاد الأندلس التي رحل إليها ولقّن تلاميذه بتلك الأكذوبة التي افتعلها ذهن أبي حاتم السجستاني وحبه لنفسه وتعصّبه على كل ما هو بصري، وما لم يصل إليه علمه. 
كما راح تلميذه أبو بكر الزبيدي يردد ما تلقاه عنه بغير وعي، وعندما أنكر عليه من في الاندلس من الدارسين حملته على كتاب (العين) ونفي نسبته إلى الخليل والطعن عليه أخذ يسترضيهم بالثناء على الخليل فقال: "أوحد العصر وقريع الدهر وجهبذ الأمة وأستاذ أهل الفطنة الذي لم يرَ نظيره ولا عرف في الدنيا عديله"، ولكنه لم يتنازل عن نفيه في نسبة (العين) إلى الخليل!! 
أما أبو علي القالي فقد ارتحل إلى الأندلس أيضاً وألف معجماً بناه على كتاب (العين) وسمّاه بـ (البارع) تعريضاً بكتاب (العين) وإيهاماً بفضله عليه، كما فعل الأزهري في المشرق حين سمى كتابه بتهذيب اللغة، غير أن أبا علي القالي بتأثير من شيخه ابن دريد وبالتزامه مقابلة نسخ (العين) بأمر من المستنصر بالله لم يجد بداً من الاعتراف بواقع الأمر بتصحيح نسبة الكتاب إلى الخليل لذلك حين صنّف البارع نسب كل ما فيه إلى الخليل.
وقد أتيح لدارس مُحدث هو الدكتور هاشم الطعان أن يُحقق نصاً من البارع ويوازن بين ما رواه من الخليل في هذا الجزء وهو معظمه وما جاء في نسختي كتاب (العين) اللتين وقف عليهما، فظهرت له الحقيقة ساطعة فقال في (البارع) (ص66): "فإذا بالكتابين ـ يعني البارع والعين ـ متطابقان حذو القذة بالقذة". 
لقد كان هذا العمل ـ أي (العين) ـ من الخليل يعطيه حق الريادة في هذا المجال، وكانت الخطة التي اتبعها في ذلك جديدة تمام الجدة على الذهن العربي لذا حاول الكثير من أمثال الأزهري والسجستاني أن ينفوا نسبته إليه ليسرقوا هذه الريادة بعمل مماثل. 
كما حاول الكثير تعليل طريقة إدراك الخليل لهذه الخطة، فذهب أغلبهم إلى أنها من ابتكاره، فيما حاول آخرون أن يسلبوه حقه في الابتكار فقالوا: "إنه تأثر بالمعجمات الأجنبية التي كانت في العراق"، لكنهم وقعوا أيضاً في الخطأ الذي حاولوا أن ينسبوه إلى الخليل فأنهم لا يستطيعون إنكار ذكاء الخليل وموهبته في ترجمة كتاب قيصر الروم عندما طلب الخليفة منه ذلك ـ رغم أنه لا يعرف لغتهم ـ فقال له: كيف استطعت ذلك؟ فقال: قلت لنفسي لابد أن يبدأ الكتاب بـ (بسم الله) أو ما شابه ذلك فعملت في ذلك على ترجمة الحروف.
كما إنهم لا يستطيعون أن يدّعوا أن الخليل كان يعرف اللغات غير العربية، ولكنهم تشبثوا بقول ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأبناء في طبقات الأطباء) عندما قال في (ج1 /ص189) في ترجمة حُنين بن اسحق: "إن حنيناً نهض من بغداد إلى أرض فارس، وكان الخليل بن أحمد النحوي بأرض فارس فلزمه حنين حتى برع في لسان العرب وأدخل كتاب العين بغداد"، فأشاعوا إن الخليل عرف من حنين اليونانية أو عرّفه حنين بما فيها من معاجم! 
ولكنهم سقطوا أيضاً في الفخ الذي نصبوه وظهر بطلان هذه الإشاعة وما أقاموا عليها من استنتاجات إذ اتفق العلماء على أن الخليل توفي قبل عام 175هـ في حين إن حنيناً ولد بعد ولد عام 194 هـ فهما لم يتعاصراً فضلاً عن المقابلة. 
وزعم بعض الكتاب المحدثين أنه بما أن منطقة الشرق هي أول من عرفت المعاجم كما ذكرنا، فمن المحتمل أن الخليل استقى معجمه من بعض هذه المعاجم! ولكن هذا الزعم تبطله المقارنة بين معجم الخليل وتلك المعاجم، فهذه المعاجم هي من نوع يخالف معجم الخليل تماماً، وهي معاجم خاصة لا عامة مثل معجم الخليل. 
لقد كان معجم الخليل معجماً بمعنى الكلمة فهو شامل يقصد إلى ذكر الواضح الغريب من الكلمات التي تنتمي إلى كل فن، وبعبارة أوجز يُومئ إلى استيعاب كلام العرب، أما المعاجم القديمة فهي لم ترمِ إلى شيء من ذلك لأن الطبقة العليا الصغيرة كانت تسيطر على اللغة، وقد اصطلحت على استعمالاتها، ولم تكن هناك طبقة قارئة حازت على قسط من الثقافة، ثم أن الخطة التي اعتمدها الخليل في كتابه (العين) في ترتيب الحروف تبعاً لمخارجها مبتدئاً بالأبعد في الحلق ومنتهياً بما يخرج من الشفتين لم تألفها المعاجم القديمة وما عرفها أحد قبل الخليل.
لقد استقرأ الخليل العربية استقراءً أقرب ما يدعى إلى الإحصاء في عصرنا الحاضر فقيّض له أن ينتهي إلى كتاب (العين) فكان أول معجم في العربية، ومن أوائل المعجمات في تاريخ اللغات الإنسانية، وقد نهل منه الدارسون على مدى قرون حتى قيل: "أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصّ لا يُشعر به!!". 
كما تناول عدد كبير من الدارسين القدامى والمحدثين وبعض المستشرقين معجم (العين) بالدراسة فوصف جلال الدين السيوطي القواميس منذ صدور (العين) حتى القاموس المحيط للفيروز آبادي وأشار باختصار إلى كل قاموس إلا إنه عندما ذكر (العين) فقد عني بوصفه وشرحه عناية كبيرة.
كما نشر المستشرق الالماني براونتج عام 1926 مقالاً مستفيضاً عن كتاب (العين). 
ويقع كتاب (العين) في (2500) صفحة، وللخليل كتب أخرى منها معاني الحروف وتفسير حروف اللغة والعروض والنقط والشكل وغيرها وكل منها يحتاج إلى موضوع لا يقل عن هذا الموضوع.

محمد طاهر الصفار