السبت - 17 رجب 1446هـ -
السبت - 17 رجب 1446هـ - 18 كانون الثاني 2025


علي بن محمد صاحب الزنج ... العلوي
13 جُمادى الآخرة 1440هـ
شغلت ثورة الزنج حيزاً كبيراً في المصادر القديمة وألفت حولها كتباً كثيرة، وأثارت اهتمام الدارسين المحدثين لما شكلته من أهمية تاريخية كونها أحدثت انقلاباً فكرياً في المجتمع، ورغم تقويضها إلا أنها كبدت الدولة العباسية كثيراً وكادت أن تودي بها، لولا تحالفات العباسيين مع الطولونيين وغيرهم ضدها وممارسة حرب الإعلام ضد رموزها وأهدافها وغاياتها، ولا تزال هذه الحرب قائمة إلى الآن في أغلب الدراسات الحديثة التي كتبت عنها والتي لم تستطع التخلص من قيود مؤرخي الماضي والتحرر من الايقونات الرتيبة التي يتلقفها المؤرخون جيلا بعد جيل وهم يرددون كالببغاء ما قال أسلافهم ويدونوها دون التأمل والبحث والاستقصاء. 
إن ثورة الزنج تعددت فيها المحاور ونالها كثير من الحيف والتشويه والتدليس، ومن سوء الحظ أن أوّل من دوّن أحداثها هو الطبري الذي كان معاصراً لها فنسج بقية المؤرخين الذين كتبوا عنها على منواله ليثبتوا هذا التزييف بل وينقلوا نفس الألفاظ التي أطلقها الطبري على صاحب الزنج فهو: "عدو الله والخبيث والخائن واللعين والزنديق والفاسق وغيرها! وجاءت أغلب الدراسات الحديثة لتزيد من المهازل والتي وضع أكثرها من حمل صفة دكتور وراح يبني على أقوال سلفه من المؤرخين ويؤيدها بترهات وأراجيف أفرزتها الأهواء والعصبية. 
ولا نريد هنا أن نتناول الثورة بكل جوانبها، فهذا يحتاج إلى دراسة مطولة، فقد استمرت هذه الثورة أربعة عشر عاماً وأربعة أشهر وستة أيام جرت خلالها معارك طاحنة بين الفريقين وأحداث كثيرة يطول شرحها لذا سيقتصر الحديث في هذا الموضوع على نسب قائد ثورة الزنج علي بن محمد الذي تضاربت الأقوال فيه كثيراً بين المؤرخين القدماء ثم جاء بعدهم من الكتاب من يؤيد هذا ويعارض ذاك ونرجو أن لا نكون إلا من أتباع الحقيقة وحدها في هذا الموضوع.

مع المؤرخين
ولد علي بن محمد في قرية ورزنين وهي قرية كبيرة من قرى الري ـ طهران ـ ونشأ فيها وقد اختلفت المصادر كثيراً في نسبه وهذه هي الأقوال فيه: "يقول الطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد: إنه ـ أي صاحب الزنج ـ ظهر في البصرة وزعم إنه: علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، ثم إنه شخص من سامراء إلى البحرين فادعى بها أنه: علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ... 
ثم إنه ذهب إلى البادية وأوهم أهلها أنه: يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الثائر الشهيد... ثم نسب نفسه إلى يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بدلاً عن عيسى بن زيد بعد إخرابه البصرة!!
ويعقب ابن أبي الحديد على ذلك بالقول: إن صاحبنا ـ أي علي بن محمد ـ غير نسبه تبعا للظروف، فانتقل من أحمد بن زيد إلى أحمد بن محمد بن زيد ثم إلى يحيى بن زيد بن علي وحين شخص إلى البحرين سنة 249 ادعى أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب!!
ولكن ابن أبي الحديد لم يبين تلك الظروف التي جعلت صاحب الزنج يغير نسبه من علوي إلى علوي آخر؟ وما الفائدة من ذلك إذا كان العباسيون قد نصبوا العداوة لكل العلويين دون استثناء؟ 
وكما هو واضح، فالطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد يذكرون هذه الأنساب على سبيل الإنكار لها وليس الإقرار بها، وكما أجمعوا على نفيها فقد أجمعوا على هذا القول: وكان اسمه ـ فيما ذُكر ـ علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد القيس، وأمه قرة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة من ساكني قرية من قرى الري يقال لها ورزنين.
ونرى ابن أبي الحديد واثقاً كل الثقة من هذا القول فيعقب عليه بالقول: جمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس!! ولكنه لم يذكر لنا نسابة واحداً من هؤلاء الذين أطلق عليهم (جمهور)! 
ورغم أنه لم يعاصر صاحب الزنج إلا أنه أيّد كل ما قاله الطبري عن صاحب الزنج ووثقه فنقل عنه ما ذكره الطبري على لسان صاحب الزنج نفسه قوله: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين فلما قتل زيد هرب فلحق بالري فلجأ إلى ورزنين فأقام بها وإن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس كان مولده بالطالقان وإنه قدم العراق فأقام بها واشترى جارية سندية فأولدها محمداً أباه!!
وهذا الرأي الذي كان يمثل الرأي الإعلامي السلطوي والذي تبناه الطبري تلقفه ابن الأثير وابن أبي الحديد تلقف المسلمات التي لا غبار عليها، لكن ابن أبي الحديد رغم أنه يوثق هذا الرأي بقوله: جمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس، إلا أنه يضيف إليهم فئات أخرى دعماً لرأيه لتجريد صاحب الزنج من علويته مستنداً في ذلك على قول الناس! نعم قول الناس حيث يقول: "وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصاً الطالبيين وجمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس"!
إنه يكرر لفظة جمهور النسابين ويضيف إليهم الطالبيين ولكنه لم يذكر أي أحد منهم!!

مع باقي المؤرخين 
لكن باقي المؤرخين لم يكتفوا بتجريد صاحب الزنج من علويته وأزعجهم وقوفه عند مضارب بني قيس فتعدّى الأمر إلى إخراجه من عروبته جملة وتفصيلا ليضعوا حداً لمن يحاول أن يناقش في علويته فقالوا بأنه فارسي ووضعوا له أسماء فارسية !! فقد نفى نسبه العلوي والعربي معاً كل من: 
المسعودي في مروج الذهب ج 2 ص 439.
وابن الوردي في تتمة المختصر ج 1 ص233. 
وابن الجوزي في المنتظم ج 5 ص 69.
والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 242. 
وأبو المحاسن ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج 3 ص21.
والقيرواني في زهر الآداب ج 1 ص 298. 
والأسفراييني في التبصر في الدين ص 76. 
وابن كثير في البداية والنهاية ج 11 ص 29. 
وابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية ص 183. 
وابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 56.
وابن حوقل في صورة الأرض ج 1 ص 237.

فالمسعودي ينفي نسبه العلوي لأن أكثر الناس يقول إنه دعي آل أبي طالب! ثم ينسبه إلى المبيضة وهي فرقة باطنية فارسية ظهرت بعد مقتل أبي مسلم الخراساني وهذا الرأي تبنّاه الأسفراييني أيضاً، أما ابن الجوزي والسيوطي فقالا: إنه ـ أي صاحب الزنج ـ فارسي وإن اسمه: بهبوذ.  
أما أبو المحاسن فيؤكد فارسيته ولكن اسمه هو: نهيود 
ويستكثر ابن كثير نسبة علي بن محمد إلى عبد القيس حيث يقول: "إن علي بن محمد كان عسيفاً ــ أي أجيراً ــ من عبد القيس وأمهُ قرة ابنة علي بن رُحَيب بن محمد بن حكيم، من بني أسد بن خُزيمة، وكان جده لأمه محمد بن حكيم من أهل الكوفة، خرج على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين، فلما قُتل الثائر هَرب جده إلى الري.
ويقول ابن الطقطقي: أما نسبه فليس عند النسابين بصحيح وهم يعدونه من الأدعياء. 
ويقول ابن حوقل: إن البرقعي ــ أي صاحب الزنج ــ ادعى النسب العلوي ولم يكن علوياً حقاً.
ويقول القيرواني: هو ــ أي صاحب الزنج ــ ابن عم أبي لحّا علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب ورحيب رجل من العجم من أهل ورتين من ضياع الري... 
وقد أخطأ القيرواني في اسم القرية التي اسمها الصحيح (ورزنين) ولا توجد قرية في إيران باسم (ورتين). 
أما البيروني فله كلام حول نسب علي بن محمد في معرض حديثه عن أعياد المسلمين لا يجزم فيه بنسبه ولكنه يضيف معلومات جديدة عليه فيقول: 
إن الشيعة لا يزالون يحتفلون بذكراه في 26 رمضان، وفيه خرج البرقعي ــ أي صاحب الزنج ــ بالبصرة وذكر أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقيل أنه كان علي بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد القيس... ثم يقول البيروني: وحكى أن الحسن بن زيد صاحب طبرستان كتب إليه حين ظهر بالبصرة يسأله عن نسبه ليعرف له حقه، فأجابه: ليعنك من أمري ما عناني من أمرك والسلام.

مع المستشرقين والكتاب
أما المستشرق نولدكه فلا يعترف بهذه الأقوال كلها لأنه يعرف أنها قد خطتها يد الأهواء والأمزجة والتعصب لكنه في نفس الوقت لا يجزم بخطئها فيقول: "إن صاحب الزنج ادعى إنه من نسل علي وفاطمة بنت الرسول، وربما كان هذا صحيحاً، ذلك أن نسل علي آنذاك كانوا يعدون بالآلاف ولم تكن لهم كلهم أهمية تاريخية تذكر، لكنه ربما كان نسبه مجرد اختراع".
ورغم أن نولدكه لم يجزم بنسب صاحب الزنج ولم يضف إلى بقية الأقوال شيئاً إلا أن قوله: "إن نسل علي آنذاك كانوا يعدون بالآلاف"، فيه إشارة إلى أن الأمر يستدعي تقصي نسبه من أصحاب الاختصاص وهم النسابون وليس من المؤرخين.  
ويقول المستشرق ماسينيون: "ربما كانت نسبته إلى العلويين صحيحة لأن البيروني يقول: إن الشيعة لا يزالون يحتفلون بذكراه في 26 رمضان".
أما الدكتور فيصل السامر فلا يسعه أمام هذه الأقوال إلا الجري معها فيقول: "وهكذا نجد إن المراجع العربية تجرّده من النسب العلوي، ونحن لا  نملك إلا أن نذهب هذا المذهب لما بين أيدينا من الأدلة الواضحة والشواهد البينة ذلك إن ادعاء النسب العلوي من جانب الثائرين ــ طوال العصور الوسطى الإسلامية ــ كان أمراً معتاداً متكرراً، لأن العلويين اشتهروا بنقمتهم على السلطة القائمة واعتبارهم إياها مغتصبة جائرة، بدليل ثوراتهم الكثيرة طوال العصر العباسي، كما إن الاستناد إلى النسب العلوي يضفي على حركة صاحب الزنج طابع الشرعية الذي لا بد من توافره لكي تنجح الحركة وتلقى التأييد من العامة الذين اعتقدوا إن الإصلاح لن يكون إلا على يد علوية".
غير أن السامر لم يذكر واحداً من أولئك الثائرين الذين ادعوا النسب العلوي الذي كان ادعاؤه (أمراً معتاداً متكرراً) كما يقول بل لا نجد في تاريخ الثورات من ادعى نسباً علوياً غير العلوي
ويجري أحمد علبي مجرى هذه الأقوال فيقول بعد أن يستعرض بعضها: "إن علي بن محمد ينحدر من أصل فارسي".
أما الدكتور صالح أحمد العلي فقد وقع في أخطاء تاريخية فادحة في موضوع نسبه منها قوله: "ولما فشل ــ أي صاحب الزنج ــ في نشر دعوته في هجر وانتقل إلى البادية ادعى أنه حفيد يحيى بن عمر أبي الحسين المقتول بناجية الكوفة!! 
ولا أدري كيف لم يعلم الدكتور صالح العلي بأن يحيى بن عمر كان معاصراً لصاحب الزنج وإنه قتل عام 250 هـ وقد رثاه ابن الرومي بقصيدة طويلة تعد من عيون الشعر العربي كما عاصر ابن الرومي أحداث ثورة صاحب الزنج التي بدأت سنة 255 هـ أي بعد خمس سنوات من مقتل يحيى بن عمر وله فيها قصيدة مطولة أيضاً فكيف يكون صاحب الزنج حفيد يحيى! 
والعلي لا يثبت على أحد هذه الأقوال بل يحاول أن يجعل نسب صاحب الزنج أدنى مما قال المؤرخون والكتاب الذين ذكرنا أقوالهم آنفا حيث يقول بعد أن يستعرض بعض هذه الأقوال: "ويدل اضطراب المعلومات عن نسبه أن لم تكن له مكانة مرموقة في الأوساط التي تولي الأنساب العربية أهمية، فلم تقدم عن نسبه معلومات ثابتة، ولم يثر تبديل نسبه.
ولا أدري كيف أن رجلا "لم تكن له مكانة مرموقة في الأوساط التي تولي الأنساب العربية أهمية" كما يقول العلي استطاع أن يجمع جيشا تعداده زهاء مليون مقاتل؟ أما المعلومات الثابتة فهي موجودة ولكنك لم تبحث عنها أيها الدكتور.. 
وبالمجمل فإن مما يتضح من هذه الأقوال إن أصحابها لم يمتلكوا الدليل الكافي على نفي علوية علي بن محمد، وإن تشبث بعضهم بقول البيروني في رسالة ملك طبرستان لصاحب الزنج لا يعد دليلا أبداً على نفي علويته.

الأقوال على محك الحقيقة
إزاء هذا التضارب الذي تخبط به المؤرخون والكتاب كثيرا لا يمكن للباحث أن يستند إلى أي من هذه الأقوال التي استندت على كلام الناس والأحكام الجاهزة والأهواء والأمزجة وقد افتقرت إلى الدليل، وهذا من الطبيعي بل من الطبيعي جداً فما ظنك بتاريخ لا يخرج للناس إلا بعد إمضاء السلطة عليه؟ فكيف سيكتب المؤرخون نسب رجل قاد ثورة كبرى على العباسيين دامت أربع عشرة سنة (255ــ270هـ/869ــ883م) وأصابت الخلفاء بالرعب وكبدت الدولة خسائر جسيمة وكادت أن تزيل الخلافة العباسية من جذورها وخاصة إذا كان هذا الرجل من العلويين ألد أعداء العباسيين؟ 
إن هذا الاختلاف الكبير والتضارب البعيد في نسبه يعطي مدلولاً واضحاً ومؤشراً فاضحاً على تلاعب السلطة في ذلك ويكشف عن يدها في تشويه نسبه، فقد تغاضت هذه المصادر عن كل الايجابيات التي حققتها هذه الثورة وألصقت بها كثيراً مما ليس فيها، ومن مساوئ الصدف أن يعاصر هذه الثورة مؤرخ له يد في موائد السلطة وهو الطبري، فمن الطبيعي أن تجد هذا التهجّم السافر على صاحب الزنج وكيل التهم له بالمجان، وكل مؤرخ جاء بعد الطبري أضاف من عنده ما شاء حتى إن من يقرأ تلك التهم الآن يحمد الله على أن هذه الثورة (الدموية قُمِعت) وأن الله نصر (خليفته) العباسي في الأرض!!
إن القول بأن علي بن محمد شخصية مغمورة من عامة الناس استطاعت أن تقود ثورة بهذا الحجم يشبه القول بأن التشيّع بدأ على يد ابن سبأ اليهودي، فكيف يستطيع رجل مغمور أن يقوم بهذه الثورة العظيمة ويضم إلى جيشه أعيان العرب وكبار الشخصيات العربية وزعماء القبائل العربية ووجهائها ويقف نداً لدولة عظيمة؟ 

المؤرخون جناة أم ضحايا؟
وربما يرد تساؤل وهو هل إن كل هؤلاء المؤرخين والكتاب قد سلكوا طريق التضليل وجانبوا الحقيقة؟ ونحن بدورنا نقول ليس هدفنا هو وضعهم على محك الاختبار فلهذا الأمر اختصاصه، ولكن نقول إن بعضهم هو من ضحايا السلطة أيضاً وقد ضُلل هو بما وجده مما خطت أيدي المتزلفين والوضاعين بين يديه ولم يجد من يخالف هذا الرأي السلطوي، فكبت الحريات والاستبداد وإسكات الأصوات المناهضة للسلطة يجعل الرأي أحادياً، ويبقى تكرار ما أملته السلطة على المؤرخين حقيقة مسلم بها وتترسخ في الأجيال جيلاً بعد جيل، ولكن يبقى عليهم بعض اللوم أنهم لم يتقصوا في البحث لكشف الحقيقة ولم يردوا الأمر من ينابيعه.
فهم وجدوا أن أول من أنكر نسب صاحب الزنج هو الطبري، ورأوا تحامله عليه، ورأوا من حذا حذوه من المؤرخين الذين رددوا ما قاله دون تمحيص وتدقيق، أما بالنسبة إلى رسالة صاحب طبرستان إلى صاحب الزنج التي ذكرناها وهي ــ إن صحت ــ لا تكون دليلا على أن صاحب الزنج لم يكن علويا، فلو كان صاحب طبرستان متأكداً من أن صاحب الزنج لم يكن علوياً لفضحه على الملأ، ولكنه أراد أن يعرف إلى أي علوي يرجع نسبه؟ وهذا شيء طبيعي، فالعلويون كانوا يعدّون بالآلاف كما يقول نولدكه وتعرضوا لأقسى وأبشع أنواع الاضطهاد من قبل العباسيين، وشرِّدوا في البلاد، وأخفى قسم كبير منهم نسبه خوفاً من السلطة، وهناك ما لا حصر له من القصص والحوادث والأقوال التي تدل على ذلك نكتفي بسرد واحدة منها لاطلاع القارئ عن كثب على مسلسل الإبادة ولدحض هذا القول الذي لا يدعم بالدليل فقد روى ابن عنبة الحسني ما نصه: "إن عيسى بن زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (109ــ169هـ/774ــ861م) ــ كان يسكن في الكوفة التي هي معقل الشيعة، وقد قال عنه الحسين صاحب فخ: لم يكن فينا خير من عيسى بن زيد، وكان من أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام. وكان على ميمنة جيش محمد ذي النفس الزكية عندما حارب المنصور، وحمل راية إبراهيم قتيل باخمرى، وقد أوصى إبراهيم أصحابه بأنه عيسى قائدهم بعده، فلما قُتل إبراهيم خاف عيسى سَطوة المنصور، ولم يأمن أهل الكوفة أن يأخذوه غيلة ويسلّموه إلى المنصور، فاستتر في الكوفة أيّام المنصور والمهدي والهادي، وكان اختفاؤه في دار الحسن بن صالح بن حي. 
وكان الحسن من كبراء الشيعة في الكوفة وتزوّج عيسى ابنة الحسن، وكان مدّة استتاره بالكوفة يسقي الماء على جَمَل، وفي يوم من الأيام اشتاق ابن أخيه يحيى بن الحسين ذي الدمعة رؤيته، فسأل أباه عن عمّه عيسى وطلب منه أن يدله على مكانه، فقال له الحسين: "إذا صرتَ إلى الكوفة فاسأل عن دور بني حي، فإذا دُلِلت عليها اقصُد السكّة الفُلانية ـ ووصفها له ـ سترى باباً صفتها كذا وكذا، فاجلس أوّل السكّة فإنّه سيُقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه، قد أثّر السجود في جبهته، عليه جُبّة صوف، يسقي الماء على جمل، وقد انصرف يسوقه، لا يضع قدماً ولا يرفعها إلاّ ودموعه تنحدر، فقُم وسلِّم عليه فإنّه سيذعر منك، فانتسب له ليسكن إليك ويحدّثك، ولا تطل معه وودِّعه، فإنّه سيعفيك من العود، فافعل ما يأمرك به، فإنّك إنّ عُدتَ إليه توارى عنك".
قال يحيى بن ذي الدمعة: لمّا وردتُ الكوفة قصدت سكّة بني حي بعد العصر، حتّى إذا غربت الشمس رأيت رجلاً يسوق جَمَلاً على الصفة التي وصفها لي أبي، فسلّمت عليه وانتسبت له، فسألني عن أهلي واحداً واحداً وأنا اشرح أخبارهم. 
وممّا حدّثني به أن قال: إنّي أسقي الماء على هذا الجمل، فاصرف نصف ما اكتسبه إلى صاحبه وأتقوّت بالباقي، وربّما عاقني عائق فأخرج إلى البريّة ـ ظهر الكوفة ـ فالتقط ما يرمي به الناس من البُقول فأتقوّت به. 
وتزوّجت إلى هذا الرجل ــ يعني الحسن ــ ابنته (وهو لا يعلم مَن أنا إلى وقتي هذا)، وقد ولدت لي بنتاً لا تعرفني إلى هذا اليوم، فقالت أمّها: إنّ ابن فلان السقّاء ــ صاحب الجمل ــ أيسر منّا وقد خطب ابنتك لابنه، فزوِّجها منه، وألحّت عليّ، فلم أقدر على إخبارها بأنّ ذلك غير جائز ولا هو بكفء لها فيشيع خبري، فزادت في الإلحاح، ولم أزل استكفي أمرها حتّى ماتت البنت، فما أحد آسى على شيء من الدنيا أساي على أنّها ماتت ولم تعلم موضعها من رسول الله صلّى الله عليه وآله. ثمّ أقسم عليّ أن انصرف ولا أعود، وودَّعَني ومضى، وبعد ذلك صرت إلى الموضع فلم أره فيه..... .
فإذا كان هذا حال عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو أقرب نسباً وأوضح حسباً من صاحب الزنج فهو حفيد الإمام زين العابدين وهو ابن الثائر العظيم الشهيد زيد بن علي وحفيد سيد الشهداء الإمام الحسين ولم يعرف نسبه أحد كبار الشيعة وقد تزوج ابنته فكيف بصاحب الزنج الذي جاء بعده بحوالي قرن من الزمان وفيه تعرض العلويون لأبشع أنواع القتل والتنكيل حتى أخفى كثير منهم نسبه خوفاً من السلطات العباسية والتي شددت من سياسة الظلم والاضطهاد والاستبداد ضدهم.

مع النسابين
إن المؤرخين والكتاب تخبطوا في التزييف ووضعوا أنفسهم في متاهات التناقض حيث لم يقف الأمر عندهم على مسألة نسب صاحب الزنج أكان علوياً أم غير علوي؟ بل تعدى إلى عنصره وقوميته، أكان صاحب الزنج عربياً أم فارسياً؟ وبلغ بهم الحد في هذا التنازع إلى سكوت البعض من الكتاب عن نسبه وإغضاء الطرف لكي لا يقع في مأزق التناقض هذا ولم يلجأوا إلى مصادر كتب الأنساب التي أوضحت كل هذا الالتباس وفضحت كل هذا التزييف. 

نسبه العلوي
ذكر السيد ابن عنبة الحسني: "نسب صاحب الزنج من جد أبيه عيسى بن زيد بن علي والذي ذكرنا قصة اختفائه في الكوفة وكان يسمى بمؤتم الأشبال، فقال: وقد أعقب عيسى من أربعة رجال هم أحمد المختفي، وزيد ومحمد والحسين وما يعنينا هنا هو أحمد المختفي (158هـ/240هـ) والذي وصفه ابن عنبة بأنه كان عالماً فقيهاً كبيراً زاهداً وكان محبوساً في سجن الرشيد فلما أطلق سراحه اختفى وبقي مختفياً عن أعين السلطة حتى سُمِّي بـ المختفي وقد بقي حتى زمن المتوكل الذي جد في عنه فوجده وقد عُمِي فتركه حتى مات بالبصرة وقد جاوز الثمانين. 
وقد أعقب أحمد المختفي هذا من رجلين هما محمد وعلي، وما يعنينا هنا هو محمد الذي وصفه ابن عنبه بأنه كان وجيهاً فاضلاً وذكر له نقلاً عن أبي نصر البخاري صاحب السلسلة العلوية روايات دلت على سعة اطلاعه وعلمه بأخبار العرب وأيام قريش والأدب ثم يقول ابن عنبة فأعقب محمد بن أحمد المختفي من ابنه: علي بن محمد... وهو صاحب الزنج وبذلك يكون نسب صاحب الزنج هو: علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،
والعقب منه هو في رجلين هما يحيى وعبيد الله الضرير. 
هذا ملخص البحث عن نسب صاحب الزنج ولم ينفرد ابن عنبة بهذا القول في النسب العلوي لصاحب الزنج بل اتفق عليه جماعة من أعلام النسابين الطالبيين. فيقول ابن عنبة: هذا ما ذكره النسابون، مثل شيخ الشرف أبي الحسن محمد بن أبي جعفر العبيدلي، وأبي الحسن علي بن محمد العمري، والشريف أبي عبد الله الحسين ابن طباطبا الحسني وغيرهم. 
ثم يذكر جماعة أخرى ممن قالوا بنسب صاحب الزنج العلوي وأخذ هو عنهم فيقول: وهناك قوم آخرون منهم: برية الهاشمي وهو إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي النسابة وأبو الحسين زيد بن كتيلة الحسيني النسابة: أن علي بن محمد صاحب الزنج صحيح النسب في آل أبي طالب. 
ثم ينقل ابن عنبة عن ابن مسكويه في كتابه تجارب الأمم قوله: سمعت جماعة من آل أبي طالب يذكرون أنه ــ أي صاحب الزنج ــ أنه علوي صحيح النسب في آل أبي طالب.
أن نسب صاحب الزنج هذا هو من مظانه الصحيحة وموارده السليمة التي لا تقبل الشك أو الاحتمال لأنه جاء من أصحاب الاختصاص وهم النسابون بل أوائل أعلام النسابين العلويين وأوثقهم الذين اعتمد عليهم من جاء بعدهم ــ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ــ وسنوضح هنا بعضاً من تراجمهم:  
1. شيخ الشرف السيّد العالم والشاعر النسّابة أبو الحسن محمد بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن إبراهيم بن علي بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام، وهو المعروف بأبي الحسين (أو أبي الحسين) بن أبي جعفر العُبَيدلي 338 ــ 435 هـ، ويعد أول من جمع جرائد السادات وهو أستاذ الشريفين الرضي المرتضى وأبي الحسن العمري. وله تآليف ينقل عنها في الكتب النسبيّة، ومن مؤلفاته الكثيرة في ميدان الأنساب: كتاب نهاية الأعقاب. وقد سافر إلى بلاد العجم فجمع الجرائد ونسّقها، وعنه أخذ الآخرون، فقال عنه العلوي في المجدي: وهو نسّابة العراق، الشيخ المسنّ قرأت عليه واستكثرت منه.
2. الشريف نجم الدين أبي الحسن علي العلوي العمري الأطرفي الشهير بابن الصوفي، وهو السيّد نجم الدين أبو الحسن علي بن أبى الغنائم محمّد النسّابة ابن أبي الحسين علي النسّابة ابن أبى الطيّب محمّد الأحور ابن أبى عبد الله محمّد ملقطة ابن أبي الحسين أحمد الأصغر الضرير الكوفي ابن أبي القاسم علي الضرير ابن أبي علي محمّد الصوفي ابن أبي الحسين يحيى الصالح ابن أبي محمّد عبد الله ابن أبي عمر محمّد بن عمر الأطرف ابن الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ‌السلام، صاحب كتاب المجدي في أنساب الطالبيين قال عنه العلاّمة السيّد صدر الدين المدني الشيرازي في كتابه الدرجات الرفيعة ص ٤٨٥ في ترجمة أبو الغنائم ما لفظه : كان أبوه أبو الغنائم نسّابه أيضاً، إماماً في فنّ النسب وكان يكاتب من الأمصار البعيدة في تحرير الأنساب المشكوك فيها، فيجب بما يعوّل عليه من إثبات أو نفي فلا يتجاوز قوله، وبالجملة فقد رزق هو وولده أبو الحسن العمري المذكور من هذا العلم حظّاً وافراً ولم يتيسّر لأحد من علماء الأنساب ما تيسّر لهما... الخ.
وقد ذكر العلوي نسب صاحب الزنج في كتابه المجدي ص 390 فقال: "قال شيخنا أبو عبد الله ابن طباطبا: ادّعى نسب علي بن محمّد بن أحمد ابن عيسى، وهذا علي صحيح النسب يكنّى أبا الحسن، وبهذا القول يقول شيخنا أبو الحسن رحمه ‌الله، يقصد شيخ الشرف العبيدلي. 
ثم يقول قلت للشريف النقيب الشيخ أبي الحسين زيد بن محمّد بن القاسم بن علي ابن كتيلة، عند قراءتي عليه نسب الحسين بن زيد وبنيه، ما تقول في علي بن محمّد صاحب البصرة الذي يدفعه الناس ويزعمون أنّ ولده عامة؟ فقال: هو علوي كذلك وجدت شيوخي يقولون وينفيه من لا بصيرة له، قلت: إنّ آخر يقال له علي بن محمّد ادّعى هذا الورزنيني نسبه، فضحك وقال: فيجب أن أقرأ أنا عليك إن كنت لا أدري أنّ هذا الرجل علوي؟!
3. الشريف أبي عبد الله الحسين ابن طباطبا الحسني: قال عنه الخطيب البغدادي: كان متميزاً من بين أهله بعلم النسب ومعرفة أيام الناس، وله حظ من الأدب وقول الشعر، وكان كثير الحضور معنا في مجالس الحديث، وعلّقتُ عنه حكايات ومقطّعات من الشعر. ومات في سنة 449هـ.
4. أما ابراهيم بن محمد بن اسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي النسابة الملقب بـ بريه الهاشمي فلم نعثر له على ترجمة.
5. أما أبو الحسين زيد بن كتيلة الحسيني النسابة فهو الشريف النسابة أبو الحسين زيد النقيب الشهير بابن كتيلة الحسيني ابن محمد بن القاسم بن علي بن يحيى بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

عودة إلى المؤرخين
بقي أن نذكر المؤرخين الذين قالوا بنسب صاحب الزنج العلوي وهم الصفدي وابن مسكويه وابن خلدون حيث يقول الصفدي في ترجمة صاحب الزنج ونسبه: إن أمه اسمها قُرة بنت عبد الواحد بن محمد الشامي من أهل الري وكان أبوها معتاداً على الحج كل سنة فكان يمر بالمدينة فينزل على أحد العلويين وفي إحدى زياراته وجد أن العلوي قد مات وترك ولداً عمره إحدى عشر سنة اسمه محمد فارتأى الشامي أن يصطحب معه محمدا إلى الري وفاء منه لصديقه العلوي لكن أم محمد وأخته رفضتا مفارقته ولكن الشامي في السنة الثانية لم يجد من يعارضه لاصطحاب محمد إلى الري فقد ماتت أمه وأخته فأتى به إلى قرية ورزنيين فلما بلغ محمد مرحلة الشباب زوجه من ابنته قرة فولدت له ابنتين ماتتا صغيرتين وولداً أسماه علياً وهو قائد الزنج. 
ويسترسل الصفدي في سرد القصة فيقول: لم يستمر زواج محمد من قرَّة طويلا فقد انفصلت عنه بسبب سخائه المُبالغ فيه فتزوج من امرأة أخرى وأخذ ابنه علياً معه لكن علياً رجع إلى أمه في ورزنيين بعد عدة سنوات بعد أن توفي والده وبقي معها مدة ثم شد الرحال إلى خراسان التي بقي فيها مدة سنتين ليعود مرة أخرى إلى ورزنيين فبقي فيها مدة لفارقها إلى الأبد حتى أعلن ثورته فأرسل إلى والدته للمجيء إلى البصرة مركز حكومته لكنها فضلت البقاء في قريتها.
والظاهر من هذه القصة أن المدينة كانت تمر بأوضاع بائسة وتعيسة لذلك عرض الشامي على محمد المجيء معه إلى الري كما يظهر أيضاً أن الأوباء كانت متفشية فيها ويدل على ذلك وفاة أم محمد وأخته في السنة التالية التي جاء فيها الشامي إليها. 
ويؤكد ابن مسكويه أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، نسب صاحب الزنج العلوي فيقول: هذا الرجل مولده بقرية من قرى الرى يقال لها ورزنين وقد شك قوم في نسبه، وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب، وهو على بن محمد بن أحمد بن على بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليهم السلام. 
كما يؤكد نسبه العلوي ابن خلدون فيقول: كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم وما بعده أكثرهم من الزيدية، وكان من أئمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير. وهو يقصد بـ الزيدية الذين ينتمون في نسبهم إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. 
كما يدل على نسبه العلوي أيضاً أن أغلب قواد ثورته كانوا من العرب مثل: علي بن أبان (المهلبي)، وسليمان بن موسى الشعراوني، وسليمان بن جامع، وأحمد بن مهدي الجبائي، ويحيى بن محمد البحراني، ومحمد بن سمعان وغيرهم بل لم يقتصر الانضمام إلى ثورته على الأفراد وتعداه إلى القبائل فانضمت إليه جماعات كثيرة من قبائل أياد وهمدان وتميم وأسد.

محمد طاهر الصفار