الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


جابر بن حيان... شيخ الكيمائيين المسلمين
2 جمادى الاول 1440هـ

مثلما تواجه الدارس لسيرة هذه الشخصية العظيمة مجموعة كبيرة من الروايات المتضاربة حول تاريخ ولادته ومكانها ونشأته ووفاته وكنيته، وحتى بلغ الاختلاف في اسمه! فكذلك تواجهه صعوبة الخوض في الحياة العلمية لهذا الرجل الفذ والتي كانت عبارة عن انسكلوبيديا علمية شاملة، ولا تزال علومه واكتشافاته مصدراً لكثير من العلوم وخاصة في علم الكيمياء الذي اشتهر به، فهو ــ باختصار ــ مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية والتاريخ البشري وفذ من أفذاذها.
وإذا كان الواجب العلمي يقتضي منّا أن نُحيي تراث علمائنا وأعلامنا ونضع آثارهم موضع تقدير؛ ونلبي ما يملي علينا الوفاء لهم بدراسة ما قدموه من علوم ومعارف إلى الحضارة الإنسانية، فإن أولى من يستحق منا هذا الواجب من هؤلاء الأعلام الخالدين هو جابر بن حيان الذي أنتج ثروة علمية هائلة وأحدث ثورة فكرية عظيمة في تاريخ البشرية؛ أضاءت طريق العلم في عصور التاريخ، فكان لنتاجه الأثر الكبير في تطوير العلوم الطبيعية والاكتشافات العلمية، كما كان لاعتماد الدول الأوربية على اكتشافاته سبباً في نهضتها العلمية، حتى قال فيه الكيميائي الفرنسي الكبير برتيلو (مرسِلان پيير اوجين برتلو): "إن جميع الباحثين العرب نقلوا عن جابر واعتمدوا في أبحاثهم على تآليفه وبحوثه". 
وحينما ترجم الفيلسوف الانكَليزي الشهير برتراند رسل بعض كتب جابر إلى الإنكليزية في لندن عام (1678) قال عن جابر: "إنه أشهر علماء العرب وفلاسفتهم". 
وقال عنه برتيلو: "لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق". 
وعدّه الصيدلي والمؤرخ البلجيكي سارتون (جورج ألفريد ليون سارتون) المتخصص في العلوم الطبيعية والرياضيات بأنه: "من أعظم الذين برزوا في ميدان العلم". 
ويقول القفطي في أخبار الحكماء: "كان ــ أي جابر ــ متقدماً في العلوم الطبيعية بارعاً في صناعة الكيمياء وله تآليف مشهورة". 
وقال عنه الجلدكي (علي بن محمد) في كتابه نهاية الطلب في شرح المكتسب: "ولا شك حين تطّلع على فهرست كتب جابر ترى موضوع الكيمياء هو الموضوع الأكثر بروزاً من بين غيره من الموضوعات التي تناولها بالدرس والشرح والذي عرف به، واشتهر بجابر الكيميائي لشغفه وولعه بهذه المادة، وأصبح يٌعرف بها عند كل العلماء الذين عاشوا عصره والذين أتوا بعده، فهو إمام الكيمياء الذي لا يدافع ولا يقاوم ولا يقف أمامه أحد".
وكان محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف المشهور يستعين دائماً بآراء جابر حيث قال في أكثر من مكان في كتبه: "قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان مستشهداُ به". 
وقال إسماعيل مظهر في كتابه (تاريخ الفكر العربي): "لعل جابر بن حيان أشهر من أن يذكره تاريخ العلم في العصر العربي، وقد أنزلته آثاره الجليلة مكاناً مرموقاً بين العلماء حتى اعترفوا بفضله فاسمه اقترن من حيث الشهرة ومن حيث الأثر النافع بأسماء العظماء من روّاد الحضارة والعمران". 
وهناك أقوال أخرى نقلها السيد الأمين في أعيان الشيعة والأستاذ قدري حافظ طوقان في كتابه الخالدون العرب بحق جابر ومكانته العلمية الكبيرة من قبل أعلام الكيمياء والفلاسفة تركناها خشية الإطالة، ولعل فيما قدمناه يعطي دلالة واضحة على عبقريته وتفرّده بهذا العلم فاستحق وبجدارة لقب إمام هذا الفن من غير منازع.


ولادته ونشأته 
اختلفت المصادر كثيراً في تاريخ ولادته، ونحن لا نريد الخوض في هذه الأقوال التي حُرِّف بعضها عن عمد ولأسباب سياسية ومذهبية من قبل المؤرخين لإبعاد جابر عن الفترة التي عاشها، ونفي تعلمه على يد أستاذه الأول الذي علمه الكيمياء وغيرها من العلوم كما سنوضحه.
باختصار شديد فإن أرجح الأقوال في ولادته هي سنة (120هـ)، وهنا تواجه الدارس لحياته نقاط من الاختلاف في مكان ولادته، فهناك روايات تقول بأنه كوفي، ولكن بعضها لا تجزم بولادته في الكوفة، بل ترجّح مقامه فيها زمناً حيث قالت بعض الروايات: "إنه كان يقيم في شارع باب الشام في درب يعرف بدرب الذهب في الكوفة، وإن جابراً كان أكثر مقامه في الكوفة لصحة هوائها".
ولكن وِل ديورانت في (قصة الحضارة) يقول: "كان جابر ابن عقار كوفي اشتغل بالطب وكان يمضي معظم أوقاته بين الأنابيق والبوادق". 
وقال ابن النديم في الفهرست: "إنه ولد في طوس من بلاد خراسان". وهناك رواية أخرى تقول: "إنه من طرسوس"، وأخرى تقول: "إنه كان صابئاً من أهل حرّان"، ورابعة تقول: "إنه يوناني اعتنق الإسلام... ووصل الاختلاف إلى حد نسبته إلى إشبيلية!" وهي رواية خاطئة جداً خلط فيها قائلها بين جابر بن حيان الذي عاش في القرن الثاني الهجري وجابر بن الأفلح الاشبيلي الفلكي والرياضي الذي ولد وعاش في إشبيلية في القرن السادس للهجرة. 
ونجد من يوضح هذا التضارب في الروايات ويحل ما تلابس منها فيقول: "إنه أزدي ينتسب إلى قبيلة الأزد التي نزحت من جنوبي الجزيرة العربية إلى الكوفة". ثم يقول آخر: "إن جابراً ولد في طوس من أعمال خراسان من أب عربي من قبيلة الأزد وأم عربية، وكان أبوه حيان عطاراً، وبعد نزوح حيان مع زوجته وولده جابر إلى طوس قرب مدينة مشهد، أرسل ولده جابراً إلى الجزيرة العربية وتعلّم القرآن والحساب بالإضافة إلى علوم أخرى".
أما بالنسبة إلى الاختلاف بين كنيتيه اللتين أطلقتا عليه وهما: (أبو عبد الله) و(أبو موسى) فيرجّح إنه أنجب ولدين بهذين الاسمين، وبلغ الاختلاف حتى اسمه فقيل إنه سُمِّي بجابر لأنه جبر العلم أي أعاد تنظيمه!". 
وكما اختلف المؤرخون في كل هذه الأمور عن حياته فقد اختلفوا في أمره وإلى أي مذهب أو فئة ينتمي؟ غير أن الراجح بل المؤكد من ذلك أن جابراً تلقى علومه من مدرسة أهل بيت النبي محمد صلوات الله عليهم، وتحديداً عند الإمام الصادق.
يقول ابن النديم: "إنه ـ أي جابر ـ من كبار الشيعة، وزعم قوم إنه من الفلاسفة وله في المنطق والفلسفة مصنفات، وزعم أهل صناعة الذهب والفضة إن الرياسة انتهت إليه في عصره وإن أمره كان مكتوماً. 
وفي الحقيقة إن ابن النديم قد أصاب في كل ما نسب إلى جابر كما يقول الأستاذ زكي نجيب محمود في كتابه (جابر بن حيان): "وحقيقة الأمر أنه ــ أي جابر ــ كان من الثلاثة معاً؛ فهو من الشيعة مذهباً، وهو من الفلاسفة جدلاً، وهو من الكيميائيين علماً".
وعن نشأته وبدايته مع العلم يقول الدينوري في (الأخبار الطوال): "إن جابراً كان تلميذاً للإمام جعفر بن محمد الصادق حيث وجد فيه سنداً ومعيناً وموجهاً لا يستغني عنه". 
إذن فقد كان الإمام الصادق عليه السلام أول معلم له وملهمه علومه، وقد استطاع بفضله تحرير الكيمياء من خلال الاستعانة بإرشاداته فأصبح كيميائي العرب الأول وأول من اشتهر علم الكيمياء عنه، وأول من يستحق لقب كيميائي من المسلمين عن جدارة، وهذه الألقاب كلها جاءت من العلماء الذين درسوا كتب جابر. 


مؤلفاته
ألّف جابر في شتى العلوم وفي جميع الصناعات وكل أنواع المعرفة والثقافة، فألّف في الطب والكيمياء والرياضيات والزهد والوعظ وغيرها؛ حتى بلغت مؤلفاته ثلاثة آلاف وتسعمائة مؤلَف ما بين كتاب ورسالة وله في الطب وحده خمسمائة كتاب وفي الكيمياء له كتب كثيرة مهمة ترجمت إلى لغات أجنبية متعددة ولا يزال منها مخطوطاً في مكتبات الشرق والغرب، ومن أبرز هذه المؤلفات: كتاب أسطقس الأول، أسطقس الثاني، الكمال، علم الاكسير العظيم، الواحد الكبير، رسائل جعفر الصادق، الواحد الصغير، والركن البيان، النور، التدابير الكبير، التدابير الصغير، التدابير الثالث، الخواص الكبير، الملاغم الجوانية، الملاغم البرانية، العمالقة الكبير، العمالقة الصغير، الشعر والتبويب، الأحجار، ابو قلمون، الباهر، الدرة المكنونة، البدوح، الخالص، رسالة في الامامية، القمر، الشمس، التركيب، الأسرار والأرض، المجردات، الحيوان، ما بعد الطبيعة، الخمسة عشر، الروضة.
وذكر له ابن النديم أكثر من خمسين كتاباً غير ما ذكرنا منها: الإيضاح، مصححات سقراط، الضمير، الموازين، الزنبق، الاستتمام، الملك، التصريف، شرح المجسطي، الوصية، إخراج ما في القوة إلى الفعل، الحدود، كشف الأسرار، خواص إكسير الذهبي، الرحمة، التجميع الأصول، الاستيفاء، التكليس والأسرار، الروض والوجيه، الجاروف، الراحة والعوالم، السهل والتجريد، صبح النفوس، الصافي، الجامع في الاسطرلاب، الخارصيني، الجفر الصادق، الجفر الأسود، السبعين والانثيين، جنات الخلد في تدبير الحجر، التصحيح في علم الصنعة، السموم.
وقد توزعت هذه الكتب في المكتبة الأهلية بباريس ودار الكتب بالقاهرة والمتحف البريطاني وجامعة اكسفورد وكمبرج ونُقل بعضها في الهند بالزنكغراف. 
وكما كان تأليف هذه الكتب عصية على أفذاذ العلماء، فقد كانت عصية أيضاً على عقول البعض أن تتقبل أنها من تأليف رجل واحد هو جابر بن حيان؛ فشككوا في نسبتها إليه لأنها تمثل تحدٍ للقدرة البشرية ـ على حد زعمهم ـ كما أنهم وجدوا ـ وبزعمهم أيضاً ـ تفاوتاً في أسلوب جابر في رسائله وكتبه فقالوا: "لم تكن كلها من تأليفه!". 
ولكن هذين الإدعائين كانا عاريَين عن الصحة ولا يمتّان إلى الحقيقة بصلة فقد أثبتت الحقائق العلمية والمقررات التاريخية إن جابر كان يمثل مدرسة لها أهميتها الكبرى في نشر العلوم في ذلك العصر؛ وقد تخرّج منها طلاب كثر وأخذوا عنه معرفة علمية مهمة منهم من أخذ منه مباشرة ومنهم من درس نظرياته وآرائه، فعن طموح جابر في العلم يقول المؤرخون: "كان جابر طموحاً للوصول إلى أبعد مدى من التجربة والعمل المستمر إلى تكوين النظرية العلمية لا الاعتماد على التأمل المجرد فقط، لذا عمل بجهد إلى أن خطا خطوة مهمة في دراسته لتخطي طريقة اليونان في وضع التجربة أساساً للعمل وكان طموحه وضع الاختبار العنصر العامل في تكوين النظرية للوصول إلى أسس ملموسة تقنع الآخرين وتسهل لهم معرفتها.
كان جابر يقول: "ملاك هذه الصنعة العمل، فمن يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء ابداً". ويقول ايضاً: "كل شيء من الطبائع لا من غيرها فهي الأصل للوصول إلى معرفة ميزانها فمن عرف ميزانها عرف كل ما فيها وكيف تركبت! والدربة مخرج ذلك، فمن كان درباً كان عالماً، ومن لم يكن درباً لم يكن عالماً ابداً، والدربة هي جميع الصنائع، لذا الصانع الدرب ينجح وغير الدرب يفشل"، فإيمانه بالعلم كان بلا حدود. 
وهو يتساءل في عجب عن الذين يظنون العجز بالعلم: "كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول إلى الطبيعة وأسرارها؟ أ لم يكن في مستطاع العلم أن يتجاوز الطبيعة إلى ما ورائها؟ فهل يعجز عن استخراج كوامن الطبيعة ما قد ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو مستور وراء حجبها؟ ثم يقول: "إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء، بل نطلب ذلك من ذوي العلم الذين استوفوا أركان البحث".
وبناءً على هذا القول يكون الرد على من أنكر تأليف جابر لهذه الكتب أن لا يتصدى بإطلاق أحكام خاطئة، وأن يدع حكم ذلك للمختصين، وعلى المختص أن يُفسّر هذا القول من جابر وأقوال العلماء في حقه ونبوغه وانغماره في العلم السر في كثرة كتبه، فهناك أدلة علمية وتاريخية تثبت نسبة هذه الكتب إليه، فقد نُسبت إليه هذه الكتب جماعة كثيرة من العلماء عاشوا في العصر الذي تلا عصر جابر أمثال ابن النديم والمجريطي والرازي وغيرهم.
يقول الفيزيائي وعالم الفلك الأمريكي كراوس (لورنس ماكسويل كراوس): "إن رسائل ومؤلفات جابر تتميّز بوحدة أسلوبية ولغوية وأدبية تدل على ترابط عميق ووثيق به وكل رسالة أو مؤلف منها تشير إلى الأخرى، أما هذا الأسلوب عند جابر فقد فاق ذهن من اتهمه بالتفاوت". 
ونترك تفسير ذلك للأستاذ زكي نجيب محمود حيث يقول: "إذا كان هناك تفاوتاً في أسلوب الرسائل التي تنسب إلى جابر فليس التفسير لهذا التفاوت أن يكون لهذه الرسائل أكثر من مؤلف واحد بل يفسّر هذه الظاهرة نفسها أن يفرض وجود التفاوت بين قدرات الشخص الواحد في أوقات مختلفة ثم يفسرها تفسير ثالث وهو أن يكون المؤلف أحياناً صاحب ظاهر وباطن وهو أمر مألوف في المؤلفين القدامى".
ويقول الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة عن جابر: "إنه قد يعقد الحديث في ظاهر الأمر على شيء ما، لكن يجعل باطن الحديث منصرفاً إلى علم الكيمياء حتى لا يفطن إلى هذا العلم الكيميائي عنده إلاّ من يريد لهم هو أن يفهمون". 
ويقول الجلدكي في (نهاية الطلب) مفسراً تلخيص جابر بعض الأشياء في كتبه وتبسيطها في أخرى: "إن من عادة كل حكيم أن يفرّق العلم كله في كتبه كلها؛ ويجعل له من بعض كتبه خواصّاً يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم كما خصّ جابر من جميع كتبه كتابه المسمى بالخمسمائة".
ويقول المجريطي كما ينقله السيد الأمين في الأعيان في حديثه عن جابر بن حيان: "بالرغم من تفاوت المدة بيننا إلاّ أنني لم أشعر به تلميذاً بل كان عالماً مفكراً مخترعاً يلجأ إليه الكثير من العلماء والمفكرين".
كانت هذه المؤهلات التي يمتلكها جابر؛ السبب في أن يعطي الدكتور زكي نجيب محمود أولوية في تسليط الضوء والبحث والدراسة عن جابر بن حيان والحديث عن علميته واكتشافاته وتقديمه على كل العلماء في مختلف العصور حيث يقول في مقدمة كتابه: "بدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب ألا وهو جابر بن حيان".
فلم يكن اختيار الأستاذ زكي جابراً قد خلقته الصدفة أو عن طريق ما هو في متناول يديه، بل جاء عن طريق الدراسة المستفيضة والمقارنة بينه وبين غيره من العلماء وسبر أغوار التاريخ والاطلاع على الحقائق العلمية التي اطلع عليها جابر وهي التي جعلته يقول: "وعمل الكيميائي في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها لولا أن الطبيعة قد استغرقت آماداً طوالاً في تكوين ما كوّنته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها على حين يستطيع العالم بتجاربه أن يختصر الزمن إلى برهة وجيزة".
وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب؛ لكن الأستاذ زكي يشعر إن علم جابر فاق علم الكيميائي المحض، بل تخطاه إلى غيره من العلوم فيقول: "لكن جابراً لم يكم كيميائياً وكفى، بل كان كذلك فيلسوفاُ يتصوّر الأمور كما يتصوّرها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة يبحثون لها عن مبدأ أول ثم يفرّعون منه الفروع وهكذا فعل جابر فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الأول".
كما كانت عبقرية جابر هي السبب في تخصيص الأستاذ رؤوف سبهاني أطول فصل في كتابه (مشاهير فلاسفة المسلمين) لجابر بن حيان قائلاً في مقدمة الفصل: "إنه ـ جابر بن حيان ـ أحد أولئك المفكرين الذين أطلقوا الفكر من عقاله، وأحد روّاد الحضارة البشرية والكاشف لأسرار الطبيعة والمتعمّق بأسرار الكون والساعي بكل جهوده لتطوير الحضارة والذي لولاه لتأخر سير الحضارة نحو التطور أجيالاً كثيرة"، فمنزلة جابر العلمية الكبيرة وريادته لعلم الكيمياء غير خافية على كل باحث، يقول حاجي خليفة في (كشف الظنون): "جابر هو كيميائي العرب الأول فهو أول من اشتهر علم الكيمياء عنه"، ويقول هولمبارد: "وهو ـ أي جابر ـ أول من يستحق لقب الكيميائي من المسلمين". 
ويقول إسماعيل مظهر في (تاريخ الفكر العربي): "والظاهر إنه ـ أي جابر - قد أصاب من ارتفاع المكانة وضخامة الثراء وبُعد الصيت ما جعله موضع التقدير آناً وموضع الحسد والاضطهاد آناً، وأما التقدير فهو الذي أحاط اسمه بهالة من الجلال أزاغت عن حقيقته أبصار الكاتبين فيما بعد حتى لتجد من يصفه منهم تارة بأنه (ملك الهند) وتارة اخرى بأنه (ملك العجم) وتارة ثالثة بأنه (ملك العرب)".


منهجه 
لقد كان جابر جديراً بهذه الألقاب، فإيمانه بالعلم كان مطلقاً، وفكره كان خالصاً له، ولا شيء يحوله دون المضي في كشف أسرار العلوم وسبر غورها، فهذا العلم ـ الكيمياء ـ اختلف العلماء أنفسهم في إمكانية حدوثه من قبل أي انسان؛ فمن الذين انكروا حدوثه الشيخ الرئيس ابن سينا الذي جهد أن يبرهن على بطلانه في كتابه (الشفاء) ودليله على ذلك هو: "إن الصفات التي يقال عنها إنها إذا أضيفت هنا أو حذفت هناك تحوّلت الأشياء بعضها إلى بعض صفات محسوسة عرضية لا تمس جواهر الأشياء فليست هي بالفواصل الحقيقية التي تميّز نوعاً من نوع".
وأما الفواصل الحقيقية فمجهولة فلسنا ندري ماذا في الذهب مما يجعله ذهباً ولا ماذا في النحاس ما يجعله نحاساً وإذا كان الشيء مجهولاً فكيف يتاح لنا أن نوجده إيجاداً أو أن نفنيه افناء؟ 
ويقف الفيلسوف الكندي إلى جانب ابن سينا في آرائه وموقفه المنكر لحدوث هذا العلم معززاً قول ابن سينا بقوله: "إن الطبيعة قد انفردت  ـ دون الإنسان ـ بأشياء؛ محال على الإنسان أن يأتي بمثلها؛ كما انفرد الإنسان ـ دون الطبيعة ـ بأشياء أخرى؛ ومن الخلط بل من الخداع أن يحاول الإنسان فعل ما قد انفردت الطبيعة بفعله؛ فكما إنه محال على الطبيعة أن تصنع سيفاً أو سريراً أو خاتماً؛ فكذلك محال على الإنسان أن يصنع ذهباً أو فضة أو نحاساً، وقد أيّد رأيهما ابن خلدون؛ وله كلام في ذلك يشبه كلامهما؛ وكذلك ابن تيمية الذي قال باستحالة هذا بالعلم. 
وفي مواجهة هؤلاء؛ نرى في الاتجاه الآخر لهم جماعة من العلماء والفلاسفة وضعوا تصانيف في إمكانية حدوث مثل هذا العلم ومن هؤلاء؛ فخر الدين الرازي الذي عقد فصلاً في المباحث المشرقية بيّن فيه إمكان علم الكيمياء؛ والشيخ نجم الدين ابن البغدادي الذي ردّ على ابن تيمية وفنّد ما كان قاله عن استحالة علم الكيمياء، وكذلك أبو بكر محمد زكريا الرازي الذي تصدى للرد على الكندي في نفس الموضوع.
أما ابن سينا؛ فقد تكفّل بالرد عليه الطغرائي؛ والذي ألّف كتباً أثبت فيها إمكان قيام هذا العلم؛ وكذلك ردّ فيها على ابن سينا قوله في عدم إمكان حدوثه، وبين هذين الرأيين المتضاربين في هذا العلم؛ نرى من اتخذ موقف الوسيط بين إمكانية حدوثه من عدمها؛ وقد تبنّى هذا الرأي أبو نصر الفارابي وخلاصة رأيه هو: "إن تحوّل الأشياء بعضها إلى بعض متوقف على نوع الصفات المراد حذفها أو إضافتها؛ فإن كانت أعراضاً ذاتية؛ تعذّر التحوّل وأما إن كانت إعراضاً عرضية؛ أمكن التحوّل هذا". 
ويتابع الفارابي قوله: "إن إمكان التحوّل قد يكون مقبولاً من الوجهة الصورية النظرية؛ لكنه عسير من الوجهة الفعلية العملية". 
وفي خضم هذه الأقوال المتضاربة والآراء المتعارضة؛ بين إمكانية حدوث هذا العلم من عدمها؛ يأتي جابر بن حيان ليقطع النزاع وليرجّح كفة أحد الفريقين وليبرهن بالفعل لا بالقول فقط؛ على إمكانية حدوث هذا العلم؛ موضحاً ما عجز عن فهمه الذين قالوا باستحالة وقوع هذا العلم بقوله: "إن أسرار الطبيعة قد تمتنع على الناس لأحد سببين؛ فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسر الكشف عنها؛ وإما ان يكون ذلك للطافة تلك الأسرار بحيث يتعذّر الإمساك بها، وسواء كان الأمر هو هذا أو ذاك؛ كان في وسع الباحث العلمي أن يتلمس طريقاً إلى تحقيق بغيته؛ فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء دون السير في شوط البحث إلى غايته، فمن يحمل العلم سلاحاً فبإمكانه خرق حجب الطبيعة وإيضاح كوامنها وكشف أسرارها.
وأركان البحث عند جابر لا تتهيأ لكل نفس ولا كل من ادّعى العلم؛ بل إن هناك معنى روحياً يجب أن يتحقق عند العالم لكي يلم بالعلم الذي يبتغيه.
وهذا المعنى هو الاعتدال حيث يقول: "فالشخص المعتدل هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة"، وهذه الصفة حينما تتوفر في الإنسان فإنه كما يعبر عنه جابر يكون: "مبتدعاً للأشياء من نفسه في أول الأمر بطباعه" ويضرب جابر مثلاً على ذلك سقراط الحكيم فيقول: "إن من كان هذا سبيله هو سقراط الحكيم فإنهم لا يشكون إن كثيراً من العلم وقع له بقليل الرياضة؛ وإن ذلك بالطباع"، كما يستعرض جابر ثلاثة مذاهب في مصادر العلم بالتفصيل؛ وهي العلم بالفطرة والعلم بالتلقين وثالث يأخذ دوراً وسطًاً بينهما؛ وهو استعداد المتعلم للتلقي وتهيؤه لقبول العلم؛ وهو الذي اعتمده جابر في أخذه العلم موضحاً إن: "النفس لا تكون عالمة أولاً بالضرورة، هي قادرة فاعلة جاهلة لكنها حينما يكون لديها الاستعداد لتلقي العلم من خلال قدرتها وفاعليتها تستطيع أن تحول العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخط عليها آثارها، ومن هذه الآثار المخطوطة يتكون علم الإنسان، ومن بين العوامل الخارجية بل من أهمها هو المعلم والوالدان وهما بمثابة المعلمَين فهؤلاء يلقنون الناشئ بما يكوّن له نفسه على الصورة التي يريدونها له". 
لذلك كان جابر يعطي أستاذه منزلة عظيمة من نفسه؛ ويكن له أجلّ الاحترام فلا يخاطبه إلا بلقب سيدي؛ وقد أفرد المقالة الأولى من كتاب (البحث) عما يجب أن تكون العلاقة بين الأستاذ والتلميذ؛ وهي مقالة عظيمة أوضح فيها ما يجب للأستاذ على التلميذ؛ وما يجب على التلميذ للأستاذ؛ ونورد مقاطع منها لما تضمنته تعاليم وآداب رائعة في مجال التربية. 
فمنزلة الأستاذ عند جابر هي "منزلة العلم نفسه" كما يقول، و "مخالف العلم مخالف الصواب والأستاذ هو كالإمام للجماعة، وينبغي للتلميذ أن يكون صامتاً للأستاذ كتوماً لسره، وواجب التلميذ أيضاً أن يكون منقطعاً إلى الأستاذ دائم الدرس لما أخذه عنه، كثير الفكر، فليس في وسع الأستاذ إلا أن يعلّم تلميذه أصول العلم؛ وعلى التلميذ بعد ذلك أن يروّض نفسه على ما قد تعلّم، أما ما يجب للتلميذ على الأستاذ فهو أن يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم وأعني بالقريحة جوهر المتعلم الذي طبع عليه ومقدار ما فيه من القبول والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه".
وتلخص منهجه في التعلّم والتعليم والعلاقة بين الأستاذ والتلميذ بأن الأستاذ يجب أن يكون مؤهلاً وأن يتوفر في التلميذ الاستعداد الفطري للتلقي، وليس هذا فحسب، فقد وضع منهجاً للعلماء، أوضح فيه ما لهم وما عليهم في التعليم ومن شروط هذا المنهج قوله: "فواجب العلماء أن يتكتموا علمهم، فلا يكشفوه إلا في الظروف الملائمة وللأشخاص الذين يستحقونه ويطيقونه ويستطيعون حمله بما يتفق وكرامته لأنك إذا صببت في إنسان علماً أكثر مما يطيق كنت كمن يضع في إناء أكثر مما يسع فيذهب الأمر هباء، لا بل إنك لتزهق ذلك الإنسان وتحرقه بما تحمّله إيّاه من علم يعجز عن حمله.
وكان جابر شديد الالتزام بهذا المنهج ويلزمه على من يعلمه، فقد روى الجلدكي في (شرح المكتسب) إن تلميذاً أراد التعلم والأخذ عنه فماطله جابر وراوغه فلما أصر التلميذ ولم يتحول عن طلبه قال جابر: "إنما أردت أن أختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك واعلم إن من المفترض علينا (أي على رجال الكيمياء) كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا وألاّ نكتمه عن أهله لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة ولأن في إذاعته خراب العالم وفي كتمانه عن أهله تضييعاً لهم".
فجابر هنا يوضح منهجه ويلتزم به ويلزم به من يعلمه هذا العلم وهو كتمان هذا العلم إلاّ على من يستحقه وهذا المنهج ينفي نفياً قاطعاً الرواية التي تقول إن جابر بن حيان أفضى بأسراره إلى هارون الرشيد وإلى يحيى البرمكي وابنيه الفضل وجعفر.


أستاذه
الباحث والدارس عن هذا الرجل الفذ من خلال كتب التاريخ والسير والأعلام يخرج بحقيقة لا غبار عليها رغم الأقوال المتعارضة عن حياته ونشأته وهي إنه إمام العلوم الطبيعية عند العرب بلا منازع؛ تلك حقيقة لا جدال فيها أوضحتها كتبه وآراؤه التي استقاها من معلمه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وتجد تأثره بهذه الشخصية العظيمة واضحاً في كل كتبه فهو يشعر بفضل سيده عليه وإنه لولاه لما استطاع أن يكتب حرفاً واحداً مما كتبه.
فتجد هذه الكلمات تتصدر كتبه ورسائله: "قال لي سيدي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام... وألقى عليّ سيدي جعفر بن محمد عليه السلام... وأخذت هذا العلم من جعفر بن محمد عليه السلام سيد أهل زمانه.
ويصرّح أيضاً في أكثر من موضع بأن مصدر علمه هو النبي محمد صلوات الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب عليه السلام؛ والذي تناقل عنهما حتى وصل إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فيقول في المقالة الحادية والعشرين من كتاب (الخواص الكبير) ص (315): "تأخذ من كتبي علم النبيّ صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام وسيدي ـ أي جعفر الصادق عليه السلام ـ وما بينهم من الأولاد منقولاً نقلاً مما كان وهو كائن وما يكون من بعد إلى أن تقوم الساعة".
ويقول في المقالة الرابعة والعشرين من نفس الكتاب ص (317): "فو الله مالي في هذه الكتب إلا تأليفها والباقي علم النبي صلوات الله عليه وآله".
ويؤكد جابر من خلال أقواله التي تتخللت كتبه إن هذا العلم تلقيني لقّنه إياه سيده جعفر الصادق عليه السلام وليس باستطاعة أي إنسان آخر أن يلقنه مثله يقول جابر في أكثر رسائله العلمية: "إنها مستحيلة على غيره من البشر" و "إنه لولا أن الإمام الصادق عليه السلام لقنّه إياه أو علّمه لما استطاع جابر أن يكتب حرفاً واحداً مما كتب".
فيقول في كتاب الأحجار (ج2 / ص164): "وحق سيدي لولا أن هذه الكتب باسم سيدي ــ صلوات الله عليه ــ لما وصلتَ إلى حرف من ذلك آخر الأبد؛ لا أنت ولا غيرك إلا فيك لبرهةٍ عظيمة من الزمان".
وتجد كثيراً من أمثال هذه الأقوال في كتبه، فيكتب هو رسائله والتي تشير إلى أن مصدر علمه هو الإمام الصادق عليه السلام والذي بدوره تلقى العلوم عن آبائه الطاهرين عن النبي صلى الله عليه وآله مدينة العلم وعن وصيه أمير المؤمنين باب مدينة العلم والذي يقول: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب".
هذا هو منهج جابر الأخلاقي في الاعتراف بفضل سيده جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام. 
كان جابر بن حيان أول من أسس مدرسة للكيمياء في الإسلام؛ اعتمدت عليها الدول الأوربية في نهضتها العلمية؛ وتُرجمت كتبه ورسائله إلى اللغة اللاتينية؛ وذلك عام (1662م)؛ وأخذت عنه ابتكاراته واكتشافاته وتعلمت منها الكثير؛ خاصة كتابه (الاستتمام) لأهميته البالغة، فلم تكن تعرف جامعاتها مراجع تدرس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر سوى كتب جابر بن حيان.


من هو جابر؟
بلغ اختلاف المصادر والروايات وتعدد الأقوال حول ولادة جابر ونشأته ودراسته إلى الحد الذي جعل بعضهم ينفي أن تكون شخصية جابر شخصية حقيقية! وهذه النبرة التي تفرزها الأهواء والميول الطائفية ليست جديدة على كثير من الكتّاب الذين تتحكم أهواؤهم ومزاجهم الشخصي في إطلاق الاحكام حول الشخصيات التاريخية؛ وكأن عقولهم تأبى أن تلد الانسانية نوابغاً عظماء أمثال جابر بن حيان، فأنكروا وجود هوميروس وامرؤ القيس وغيرهما حتى وصل الأمر إلى شكسبير!
وأما الذي لم يجرؤ على إنكار شخصيته؛ فقد راح يقلل من مستوى جابر العلمي الذي فاق ذهنه فقال: "إنه حتى إن كان شخصية حقيقية تاريخية فهو لم يضف هذه الكتب الكثيرة التي قيل إنه مصنفها!". 
واستثنى من قال بذلك كتاب (الرحمة) الذي اعترف الكل بأنه له.
أما عن مؤلفاته الأخرى فقالوا: "فقد صنّفها غيره ثم نحلوه إيّاها".
إلى هذا الحد تلعب الأهواء والعصبية في العقول!!
نترك الرد على هذه الأقوال للتاريخ نفسه وللمؤرخين أنفسهم: 
يقول ابن النديم بعد أن ينقل فيه هذه الآراء فيرد عليها بالمقررات والحقائق التاريخية التي كانت أكبر من أهوائهم فيقول في فهرسه ص (499) في الرد على من أنكر نسبة الكتب إلى جابر بن حيان: "إن رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب فيصنف كتاباً يحتوي على ألفي ورقة يتعب قريحته وفكره بإخراجه ويتعب بدنه وجسمه بنسخه ثم ينحله لغيره ـ إما موجوداً او معدوماً ـ ضرب من الجهل وإن ذلك لا يستمر على أحد ولا يدخل تحته من تحلّى ساعة واحدة بالعلم! وأي فائدة من هذا؟ وأي عائدة؟".
وكان هذا رد الفيلسوف الفرنسي (كاراديفو) على من أنكر وجود جابر فقال كما في دائرة المعارف الإسلامية مادة (جابر بن حيان): "إنها رواية نرفضها بغير تردد". 
وإضافة إلى هذين الردين؛ فهناك حقائق تاريخية تؤكد إن جابر عاش في القرن الثاني للهجرة، فقد نقل الحسين بن بسطام بن سابور الزيات وأخوه أبو عتاب عبد الله بن بسطام عن جابر ورويا عنه في كتابهما (طب الأئمة)؛ وهما من معاصري الكليني صاحب كتاب الكافي كما ذكره الفيلسوف الرازي فقال: "أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان".
كما شرح كتب جابر بن حيان ممن جاء بعده بفترة قليلة كل من ابو جعفر محمد بن علي الشلمغاني وأبو قران من أهل نصيبين، وذكر أبو حيان التوحيدي جابراً عند كلامه عن ابن مسكويه فقال: "كان مشغولاً ومنهمكاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي ومفتوناً بكتب أبي زكريا الرازي وجابر بن حيان".
ووصف (المجريطي) في كتابه (غاية الحكيم) كتاب (الجامع) لجابر بن حيان فقال: "يحتوي على ألف باب ونيف ذكر فيه أعمالاً عجيبة لم يسبقه إليها أحد". 
كل هذه الحقائق والمدوّنات التاريخية تؤكد وجود جابر وعبقريته وهي كافية لانصياع كل من أنكر وجود جابر.


وأما من استكثر على جابر مؤلفاته الكثيرة في الطب والفلسفة والكيمياء والمنطق والرياضيات؛ فأفضل رد عليه هو رد ابن النديم الذي ذكرناه.
لقد ابتليت الأمة الإسلامية بأمثال هؤلاء الذين سخّروا أقلامهم لأهوائهم ونزعاتهم الشخصية، وهناك طائفة أخرى حاولت بكل الوسائل تزييف الحقائق التاريخية برسم صورة مغايرة لما هو عليه جابر كأنهم يريدون جابراً حسب أهوائهم، والهدف من ذلك واضح، إذ لا يسعهم تحمل تشيّع جابر الذي لا غبار عليه وإنه تلميذ سادس أئمة أهل البيت أصل العلوم وأساسها والذين أوصى الرسول بأتباعهم بعده، فراحوا يحاولون فصل التلميذ عن أستاذه الحقيقي وإبداله بآخر.
فقالوا: "إن جعفر الذي يردده جابر كثيراً في كتبه بإضفاء لقب سيدي عليه هو جعفر بن يحيى البرمكي"!! على الرغم من تصريح جابر بأن أستاذه وسيده هو جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وجاء هذا القول لأن جابر يكرر هذا القول كثيراً في كتبه كما قلنا فيقول في بعض الأحيان: "قال لي جعفر...، وألقى إليّ جعفر... للاختصار بترك ذكر اسم والد الإمام الصادق ولقبه، ولكن الدلائل تنفي هذا القول من أساسه، لأن السياق في حديث جابر يسوّغ له أن يذكر الاسم فقط بعد ذكره لإسم الإمام الصادق كاملاً في بداية حديثه، ولا يسوّغ له أن يعدل إلى غيره بذكر اسمه فقط للإشارة إلى المدلول، كما إن النعت الذي ينعت به سيده يجعل من المستحيل أن يكون شخص آخر سوى سيده الصادق هو المقصود إذ أن جابر كثيراً ما كان يقول: سيدي جعفر بن محمد "صلوات الله عليه" و "عليه السلام"، ولا نجد من كان يطلق هذه الصلوات والتسليم على جعفر البرمكي لا من الشيعة ولا من السنّة ولا من أي فرقة إسلامية.
وهذه الحقيقة أكدها الأستاذ المرحوم زكي نجيب محمود في كتابه (جابر بن حيان / ص 18)، عندما ينقل هذه الرواية عن جابر فيقول: "وفي مقدمة كتاب (الحاصل) لجابر يقول ـ أي جابر ـ : "وقد سميّته كتاب الحاصل وذلك إن سيدي جعفر بن محمد صلوت الله عليه قال لي: "فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب ـ أي الكتب التي ألّفها جابرـ وما المنفعة منها ؟ فعملت كتابي هذا وسماه سيدي صلوات الله عليه بكتاب الحاصل"... .
ثم يقول محمود بعد ذكره هذه الرواية: "وواضح إن هذا التوقير كله لا يكون موجهاً إلى برمكي؛ وإنما يوجه مثل هذا التوقير من شيعي إلى إمامه".
ويقول في نفس الكتاب / ص17: "القول الراجح الصدق إنه إنما عنى به جعفر الصادق؛ ونقول إنه مرجّح الصدق لأن جابراً شيعي فلا غرابة أن يعترف بالسيادة لإمام شيعي؛ هذا إلى وفرة المصادر التي لا تتردد في أن جعفراً المشار إليه في حياة جابر ونشأته هو جعفر الصادق".
وكذلك قال حاجي خليفة في كتاب (كشف الظنون / ص343) حينما يذكر جابراً مصحوباً بعبارة (تلميذ جعفر الصادق). 
وجاء فريق ثالث ليهب لفظة (سيدي) التي كان يرددها جابر في كتبه ورسائله إلى خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ولكن سرعان ما تتهاوى هذه المزعمة بعد أن تصطدم بحقيقة أن وفاة خالد سبقت ولادة جابر بن حيان بثلاثين سنة فخالد مات سنة (90هــ) وجابر ولد عام (120هـ) كما ذكرنا، إذن لا مناص من الاعتراف بأن أستاذ جابر وسيده وملقنه هو الإمام جعفر بن محمد الصادق؛ سادس أئمة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام.
هذه الحقائق الباهرة والأدلة الساطعة التي عمي عنها البعض أو تعامى؛ كانت غصصاً في أفواههم بعد أن عجزوا أن ينكروها فجاءوا من زاوية أخرى، فقصة جابر لن تنتهي مع هؤلاء، فجابر بن حيان أكبر عالم كيمياء عرفه العرب عبر تاريخهم وهو تلميذ الإمام الصادق عليه السلام وهو شيعي، وكل هذه الحقائق تحملوها على مضض؛ إذن فليكن جابر شيعياً ولكن ليس اثنا عشرياً بل إسماعيلياً.
هذا ما دوّنوه معتمدين على أدلة واهية أوهن من خيوط العنكبوت؛ لا تستند إلى الحقيقة بشيء؛ وقد دحضت الحقائق العلمية أدلتهم الواهية فمن هذه الأراجيف قولهم: "إن فكرة العدد وخاصة السبعة تؤكد العلاقة بين جابر والاسماعيلية فمبادئ الإسماعيلية سبعة، والأئمة سبعة، والأقاليم سبعة، بالإضافة إلى الشرع الذي ينص على وجود سبع سماوات وسبعة أرضين؛ واستدلوا بقول جابر في كتاب (الانتقال من القوة إلى الفعل): "إن شكل المسبّع هو شكل النار"؛ على أنه كان إسماعيلياً!
كما عمدوا إلى نظريات جابر الكيميائية وربطوها بالتفكير الإسماعيلي فخواص الأشياء بالنسبة للكيميائي تنقسم إلى ظاهرة هو العلم وباطنية هو الميزان والإسماعيليون لا يكتفون بالتفسيرات الظاهرية بل يغوصون إلى الباطن، ولذا سمّوها بالباطنية واعتمدوا كذلك في أدلتهم بعلاقة جابر بالإسماعيلية على إعطاء جابر التفسيرات الدينية في علاقة الأشياء بعضها ببعض وإطلاق ألفاظ كيميائية عليها مثل اطلاق كلمة الاكسير وحجر الحكماء على الإمام وتقسيم العوالم إلى ثلاثة أقسام: الصغير الإنسان، والكبير، وعالم الإمام الذي هو عالم الاكسير ليدل على الروابط الأزلية بين العناصر الأربعة؛ وعقدوا مقارنة مغلوطة بين هذه المفاهيم لدى جابر مع التغييرات في بعض كتب الإسماعيلية مثل كتاب أحمد بن حميد الدين الكرماني الإسماعيلي المعاصر للخليفة الفاطمي الحاكم بالله ونترك بدورنا الرد على هذه الادعاءات للأستاذ رؤوف سبهاني في كتابه (مشاهير فلاسفة المسلمين / ص312)، حيث يقول بعد أن يستعرض هذه الادعاءات الواهية بالتفصيل: "وبالعودة إلى محاولة ربط رسائل جابر بالإسماعيليين فهي محاولة فاشلة كسابقتها ليس لها ما يبررها خاصة بعد ورود أكثر التعابير في القرآن الكريم مثل التأويل والسبعة والباطن وغيرها فإذا نسبنا الأعداد وبخاصة السبعة والباطن إلى الإسماعيلية لزم على هذا أن يكون القرآن الكريم إسماعيلياً وخاصة إنه يوجه نحو الباطن ولزم أن تكون الحركات الصوفية في المشرق والمغرب إسماعيلية أيضاً".
ثم يقول في نفس الكتاب مفنداً رأي من يقول إن جابر غير شيعي: "إن جابر بن حيان هو بلا شك أحد أهم فلاسفة الشيعة حيث سيطرت على كتبه ورسائله روح التشيّع كما وبرزت فيها الروح الجعفرية بأوسع حدودها".
وهناك حقيقة قاطعة تدحض رأي كل من قال إن جابرا إسماعيلي وهي أن الاسماعيلية لم تبرز إلى الوجود إلا من خلال داعيتها عبد الله بن ميمون عام (874م)، أي بعد موت إسماعيل بن الإمام الصادق والإمام الصاق وجابر بن حيان، إذن فلا أساس لهذه الدعوى ولا صحة فجابر كان شيعياً، وأكدت المصادر المعتبرة على ذلك قديماً وحديثاً وقد أثبت صحة تشيّع جابر السيد طاووس في كتابه (فرج المهموم في تاريخ العلماء النجوم) عند حديثه عن أعلام الشيعة فقال: "وجابر بن حيان منهم صاحب الصادق".
ويعزز هذا الرأي أبن النديم بقوله في فهرسه: "لهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة". 
كما أكد هذه الحقيقة أبرز العلماء الذين ترجموا لجابر ومنهم السيد الامين في كتابه (أعيان الشيعة) حيث عدّه من كبار رجالات الشيعة، والشيخ اغابزرك الطهراني في (الذريعة)، والسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني في كتابه (الهيئة والإسلام). 

 

محمد طاهر الصفار