الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ -
الاحد - 21 جمادى الاول 1446هـ - 24 تشرين الثاني 2024


الملا صدرا... آخر فلاسفة المسلمين المجددين في الفلسفة الإسلامية
7 شعبان 1440هـ
هو الملا صدر الدين محمّد بن إبراهيم بن يحيى الشيرازي القَوَامي، فلقبه الشيرازي راجع لنسبته إلى مدينة «شيراز» الواقعة جنوب غرب إيران، أمّا القَوَامي فهو نسبة لعائلة قَوَام التي ينتسب إليها، وهي عائلة كبيرة ولها مكانتها المرموقة في إيران، وقد لَقّبه تلامذته بألقاب أخرى، منها: «صَدْرُ المتألهين» و«المُلاَّ صَدْرَا».
ولم تحدّد لنا التراجم سنة ولادته بالدّقة، إلاّ أنّ المرجّح كون ولادته كانت في الرُبع الأخير من القرن العاشر الهجري، أي حوالي (979 هـ) أو (980 هـ) في مدينة شيراز الإيرانيَّة، وتوفي سنة (1050 هـ) في مدينة البصرة العراقيَّة، وذلك أثناء سفره للحجّ، وعاش من العمر حوالي سبعين سنة.
لقد ولد «الملا صدرا» في مدينة شيراز لعائلة لها مكانتها الإجتماعيّة المرموقة، فوالده كان أحد وزراء الدّولة التي كانت عاصمتها شيراز، ويُنقل أنّ والده عندما لم يرزق بولد نذر أن يوزّع ماله على الفقراء وطلبة العلم إن رزقه الله بولد، وهكذا رُزق بولد وهو الملاّ صدرا.
وقد أخذ «الملاّ صدرا» ثقافته الأولى في مدينة شيراز، كما يُنقل أنّه بذل مالا كثيرا في سبيل طلب العلم، وعندما انتقل والده إلى الرفيق الأعلى، ترك الملاّ صدرا مدينة شيراز وتوجّه نحو أصفهان التي كانت في ذاك العهد منارة من منارات العلم وملاذا لكثيرٍ من الحكماء الفلاسفة والعلماء، فتتلمذ على يد أستاذين بارزين هما: الشيخ بهاء الدّين العاملي المعروف بالشيخ البهائي العاملي، وأيضًا السّيد محمّد باقر الأسترآبادي، المعروف بـالمِيرْدَامَاد، فدرس عند الأول العلوم الشرعيَّة النقليّة من قبيل الفقه والأصول وعلم الرجال والدرايَّة، حتى حصل على مرتبة الاجتهاد، ثمّ درس عند الثاني العلوم العقليّة الفلسفيَّة من قبيل المنطق، الفلسفة، والإلهيات.
ثم وبعد أنّ جمع ما جمع من العلوم والمعارف خلال السنين الطويلة التي قضّاها في طلب العلم، لم  يرتوِ بما اكتسبه من علوم ومعارف، ممَّا أدى به إلى معايشة حالة من الضيق بسبب بعض مَن عاصره من الذين يراهم قد اتسموا بالتقليد والعمى في المعرفة، حيث نجده يقول في مقدمة مصنَّفه «الأسفار الأربعة» ما نصّه: "وقد ابتلينا بجماعة عازبي الفهم تَعمشُ عيونهم عن أنوار الحكمة وأسرارها ،[و] تَكِلُّ بصائرهم كأبصار الخفافيش عن أضواء المعرفة وآثارها، يرون التعمّق في الأمور الربّانية والتدبّر في الآيات السبحانيّة بدعة، ومخالفة أوضاع جماهير الخلق من الهمج الرّعاع ضلالةً وخدعة .... إلخ".
وهذه الحالة التي عايشها دفعته نحو الدخول في عزلة طويلة دامت حوالي عشر سنوات، وذلك في إحدى القرى القريبة من مدينة قم المقدّسة، وتوجّه لعبادة ربّه ومجاهدة نفسه بالذكر والرياضات، فيقول في مقدمة «الأسفار الأربعة» ما نصّه: "ضربت عن أبناء الزمان صفحًا، وطويت عنهم كشحًا، فألجأني خمود الفطنة ووجمود الزمان ـ لمعاداة الزمان وعدم مساعدة الدوران ـ إلى أن انزويت في بعض نواحي الديار، واستترت بالخمول والانكسار، منقطع الآمال منكسر البال، متوفّرًا على فرض أُؤديه وتفريط في جنب الله أسعى في تلافيه، لا على درس ألقيه، أو تأليف أتصرّف فيه... الخ".
ويرجّح أنّه وخلال هذه المدّة التي قضاها في العبادة والخلوة عن المجاميع العلميَّة، قد أنضج أفكاره وعمَّق مطالبها، وكذلك أعاد النظر في كلّ ما تلّقاه من علوم المعقول، حيث نجده يقول ما نصّه: "فلمّا بقيت على هذه الحال من الإستتار، والإنزواء، والخمول، والإعتزال زمنًا مديدًا أمدًا بعيدًا، اشتعلت نفسي بطول المجاهدات اشتعالاً نوريًا، والتهب قلبي لكثرة الرياضات إلتهابًا قويًا، ففاضت عليها أنوار الملكوت، وحلّت بها خبايا الجبروت، ولحقتها الأضواء الأحديّة، وتداركتها الألطاف الإلهيّة، فاطلعت على أسرار لم أكن أطّلع عليها إلى الآن، وانكشفت لي رموز لم تكن منكشفة هذا الإنكشاف من البرهان، بل كلّ ما علمته من قبلٍ بالبرهان، عاينته مع زوائد بالشهود والعيان .....الخ".
وبعد تلك السنين الطِوَال من العزلة عن المجامع العلميَّة، والمتصرّمة في العبادات والمجاهدات والرياضات، شرع الملاّ صدرا في كتابة مصنّفه الرئيسي الذي جمع فيه أصول وفروع مذهبه الفلسفيّ، وسمّاه «الحكمة المتعاليّة في الأسفار العقليّة».
وبعد أن خطَّ مصنَّفه وطرح معالم مذهبه الفلسفي ذاع صِيته بين العلماء في مختلف الأمصار، وتبعه جمع كبير من طلاب العلم والحكمة، ثم وبطلب من الشاه عبّاس عاد إلى مدينة شيراز ودَرَّس في مدرستها التي تحوّلت بعد ذلك إلى مركز علمي هام، وقضى بقية حياته في مدينة شيراز يُدرِّس ويُؤلّف إلى أن وافته المنيّة في مدينة البصرة العراقيَّة، وذلك أثناء سفره لتأديَّة فريضة الحجّ، ولم يُعرف قبره إلى يومنا هذا، إلاَّ أنَّه ومن المؤكد أنّه دُفن في العراق.
ولم تذكر لنا التراجم عن أساتذته عندما كان بمدينة شيراز أوّل مرّة وهو حديث السّن، ولكن عندما انتقل إلى مدينة أصفهان بعد وفاة والده دَرَس وتتلمذَ عند أهم أعلام ذاك الزمان في إيران، منهم:
الشيخ بهاء الدّين محمّد بن حسين الحارثي العاملي: وهو الفقيه المتكلم، والأديب والشاعر، والفلكي الرياضي، المعروف بـ «الشيخ البهائي»، الذي هاجر من لبنان إلى إيران نتيجة الأوضاع الصعبة التي كان يمرّ بها شيعة لبنان في تلك المرحلة، وقد درس الملاّ صدرا العلوم النقليّة والعقليّة عنده، إلا أنّه استفاد منه في العلم المنقول أكثر ممّا استفاد منه في المعقول، فدرَّسه الفقه والأصول والحديث والدِّراية والرجال...  .
السيد محمّد باقر الحسينيّ: الحكيم المتألّه، والفقيه المتكلّم، المشهور بـ «الميرداماد» فدرّسه المعقول من الفلسفة وعلم كلام والمنطق، والميرداماد يعتبر من أهم أعلام زمانه، حتى أنّه كان يلقب بـ «المعلّم الثالث» بعد أرسطو المُلقب بـ «المعلم الأوّل»، والفارابي الملقب بـ «المعلّم الثاني»، وذالك لغزارة علمه وسعة معارفه العقليَّة في الفلسفة والمنطق... .
السيد أبو القاسم الفَندَرسكي: المشهور بـ المِيرْ فَنْدَرْسَكِي، وهو من أبرز علماء المنطق والإلهيات في أصفهان، ويقال أنّه هو أوّل من اتصل به الملاّ صدرا عندما قدم إلى مدينة أصفهان، وهو من نصح الملاّ صدرا بأن يتتلمذ على يد الشيخ البهائي والميرداماد السابقين بالذكر.

أمّا تلاميذه فمن أبرزهم:
الشيخ محمّد محسن بن مرتضى الكاشاني: الملقّب بـ «الفيض الكاشاني»، وینقل أنّ الملاّ صدرا هو من لقّبه بالفيض، وهو من أبرز العلماء الأجلاء الذين جمعوا بين المنقول والمعقول وله مؤلّفات كثيرة، وهو أكثر التلاميذ تأثَّرًا بأستاذه. 
الشيخ عبد الرزّاق اللاهيجي: المشهور بـ «المحقّق اللاهيجي» وقد لقّبه المُلاَّ صدرا بـ «الفَيَّاض»، وهو حكيم متألّه ومحقق متكلّم وشاعر أديب، له ديوان شعر باللّغة الفارسيّة، ومؤلّفات مهمّة في الفلسفة وعلم الكلام.

مؤلفاته ومصنَّفاته:
تنقسم مؤلّفات الملاّ صدرا إلى رسائل وكتب، أمّا الأولى، فكانت تقتصر على تبيان المطلب ووجوه البرهنة والاستدلال عليها ثم نتائج ما تقود إليه الاستدلالات، أمّا الثانيّة، فتذكر المطالب والأقوال المختلفة والمتنوعة، ثم يتمّ شرحها ونقاشها ثمّ البرهنة على المرجّح عند المصنف.
والمُلفت هنا أّنّ الملاّ صدرا كتب جميع مؤلّفاته باللّغة العربيّة، ما عدا بعض أشعاره ورسالة واحدة خطّها باللّغة الفارسيّة وهي «سه أصل ـ الأصول الثلاثة»، ومن المرجّح أنّ جميع مؤلّفاته كتبها بعد خروجه من عزلته التي دامت حوالي عشر سنوات.
نذكر منها: الحكمة المتعاليّة في الأسفار العقليّة الأربعة، الشواهد الربوبيّة في المناهج السلوكيّة، المبدأ والمعاد، الحكمة العرشيّة، مفاتيح الغيب، المظاهر الإلهيّة، كسر الأصنام الجاهليّة، الحواشي على شرح حكمة الإشراق، الحواشي على إلهيات الشفاء، أجوبة المسائل النصيريّة، أجوبة المسائل الخمسة، رسالة في اتصاف الماهيّة بالوجود، رسالة في سريان الوجود، التنقيّة في المنطق، رسالة التصوّر والتصديق، رسالة في الواردات القلبيّة، رسالة في المعاد الجسماني، رسالة في القضاء والقدر، رسالة اكسير العارفين، رسالة طرح الكونين، رسالة حدوث العالم، رسالة خلق الأعمال، رسالة في التشخّص، رسالة المشاعر، رسالة في التقيّة، رسالة في الأمانة، رسالة في زاد المسافر، رسالة الأصول الثلاثة، شرح الهداية الأثريّة، شرح أصول الكافي، ديباجة عرش التقديس، ديوان شعر بالفارسيّة، تفسير القرآن الكريم (سبعة مجلّدات)، تفسير سورة قرآنيّة، أسرار الآيات، متشابه القرآن، إيقاظ النائمين، المزاج، الرسالة الجوابيّة على أسئلة شمس الدين الكيلاني، خطاب صدر الدين إلى أستاذه مير محمد باقر داماد، لميّة اختصاص المنطقة بوضع معيّن من الفلك.
ويمثّل مصنَّفه «الحكمة المتعاليّة في الأسفار العقليّة الأربعة» المؤلَّف من تسع مجلدات، المرجع الرّئيس في فهم فلسفة الملا صدرا، فهو المصنَّف الذي حاول من خلاله جمع خلاصة آرائه الفلسفيّة، ودوّن كذلك فيه أصول مذهبه وفروعه، غير أنَّه لو أردنا البحث في مذهبه الفلسفي المسمَّى بـ «الحكمة المتعاليّة»، فلا بدّ من الكلام عن الأصلين العامّين اللّذَيْنِ ميَّزا مذهبه عن باقي المذاهب الفلسفيّة الإسلاميّة كالمشائية والإشراقيّة، ومكّننا من عدِّهِ كمذهب فلسفي ثالث في داخل المدرسة الفلسفيّة الإسلاميّة، وهما القول بـ «أصالة الوجود» والقول الصريح بـ «الحركة الجوهريّة».

حبيب مقدم