السبت - 19 ربيع الأول 1447هـ -
السبت - 19 ربيع الأول 1447هـ - 13 أيلول 2025


هل لعبارة "لماذا؟" معنى أعمق من التساؤل؟
16 جمادى الاول 1440هـ
لقد استوقفتني لفظة "لماذا" التي جُعلت الجزء الثاني المكمّل للمحور الرئيسي لموقع (الإسلام...لماذا؟) بل وشدّت انتباهي، لكونها أثارت في دواخلي جملة كبيرة من الدفائن الوجودية، التي عبثت في الوجدان لسنوات طويلة، ورغم كونها خمدت فقلّ وجع نيرانها خلال السنوات القليلة الماضية، إلاّ أنّها تستعر نيران أوجاعها من فترة لفترة، حتى تكاد تعصف بكل المرتكزات المعرفية لدي، لتوصلني لحقيقة صعبة التقبل، وهي أنّنا نعيش في واقع أسطوري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل لو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا، ووقفت البشرية جمعاء لتكتب لنا أعظم أسطورة تُفترض، لما تمكّنت من مضاهاة أسطورية هذا الوجود الذي نعيشه، والذي نتقلب فيه كالعميان .
نعم، قد تكون عبارة أو لفظة "لماذا" سهلة التلفظ، وبسيطة المعنى والفهم والإدراك، وكذلك قليلة الأهمية، عند بعض العقول التي لم تتمكن من خرق وتجاوز حُجب الأُلفة الخادعة، فسربلتها وهي ضاحكة مستبشرة، والتي هي في واقع حقيقتها أكبر العوائق التي قد تواجهها عقول بني الإنسان في سير تطورها وسموها في عوالم المعرفة والإدراك.
ونقصد بالعقول المسربلة بحُجب الأُلفة، تلك العقول التي توقفت حركتها عند ما آلَفَته من معلومات أوّلية، كانت قد اكتسبتها في المراحل الأولى التي واجهت فيها الأشياء، فهي لم تعرف عن حقيقة الطاولة الماثلة أمامنا إلاّ ما تعلمته عند مواجهتها لها أوّل مرة، والتي في الغالب لا تتجاوز إلا الأعراض الحسية، أو الوظيفة العملية لها ـ وضع الأشياء عليها ـ ولم تبلغ يوما مرحلة التساؤل عن جوهر وكنه هذه الطاولة، التي قد يظهر لنا أنّها تندثر عند تفكُّكِها، وكذلك لم تتساءل يوما عن القوانين التي تقف خلف ما يظهر لنا من تمظهرات خادعة لما يسمى الوجود، الذي هو الآخر نراه قد حكم على الموجودات المادية، بأن تُرِينا من حقائقها إلاّ ما يسمح به قانونه. 
نعم، قد نتفق مع الجميع على كون لفظة "لماذا" سهلة التلفظ، بل هي سلسة على اللسان، وكذلك عذبة للأذان، ولكنها ليست سهلة الإدراك والفهم كما قد يتوهم البعض، ولا هي قليلة الأهمية، خاصة عند العقول التي استطاعت من خلال التأمّل والتمعن العميق أن تخرق حُجب الألفة، لتصل إلى ما خلف ظواهر الموجودات، فبلغت بذلك إلى المعاني العميقة التي تكمن خلف ما آلفته بعض العقول، ومنها ما آلفته اتجاه معنى لفظة "لماذا". 
فمفردة "لماذا" يكمن خلف حروفها مباشرة معنى التساؤل، وإلى هذا الحد تقف رِحَال أغلب العقول البشرية المقيدة بالأُلفة، ولكن وبعد خرق حجاب الأُلفة بالتأمل والتّمعن العميق، سنجد أنّ هناك معنى أعمق يقف خلف معنى التساؤل، وهذا المعنى العميق يمكن أن ننتزعه من اجتماع جملة من المفردات المترابطة، وهي التي تمثل في الواقع الأُسس أو الأرضية لمعناها العميق والمنتزع، والذي هو الآخر من صنف المعارف المُعَاشَة، التي تدركها العقول فقط وفقط عبر معايشتها. 
فالمعنى العميق الذي يقف خلف معنى التساؤل، يُنتزع بعد معايشة جملة من الحقائق المضنية، من قبيل البحث والضياع، التفكر والتأمل، السير والاستمرار، الحب والوجع، الحقيقة والحيرة، التعب والإرهاق، الهجرة والوحدة، الصبر والثقة، المكافحة والمجاهدة، العجز والإصرار، البُعد والوصول، التوهم والإدراك... الخ.
فالمعنى العميق الذي نلتمسه من لفظة "لماذا" لا تدركه العقول من خلال النظر والتصور، الذي هو الآخر مقيد بالجمع والتحليل في وصوله للحقائق، بل تدركه من خلال معايشة كل تلك المفردات التي ذكرناه، لتتمكن في مرحلة أخرى من القدرة على انتزاع مفهوم عام يصعب التعبير عنها بالألفاظ، ولكن يمكن مقاربته بعبارة: "عشق البحث والوصول لكنه الوجود، وحقيقة العدم".
فالوجود والعدم، هما أكثر المفاهيم سعة واتساعا بين جميع المفاهيم المدركة للعقل، بحيث نجدهما قادرين على احتواء كل حقائق الموجودات التي  يمكن للعقل أن يفرضها في لوحة الوجود المعرفي، فكل طرق البحث والتأمل ـ والتي لا يمكن حصرها عمليا ـ تصل بصاحبها في آخر المطاف إلى مواجهة حقيقتين هما: الوجود وبالتبع العدم، بل قد لا يمكن لنا أن نكمل المسير في طريق طلب الحقيقة، إلاّ بعد أن نحل مشكلة فهمنا للوجود وبالتبع له العدم، وذلك لأجل أن نتمكن في مرحلة أخرى من فهم حقائق الأشياء التي حواها الوجود وبلغها العدم بنحو من أنحاء البلوغ.
وبعد قطع مراحل عديدة في مواجهة ومصارعة الوجود والعدم، يزداد التعلّق ويقوى العشق، بحيث يصير التعلّق ثقلاً والعشق عبأً مرهقًا ومنهكًا لكلّ كيان بشري، عند هذه المرحلة يمكن بمقدور الفرد أن يقول أنّه قد بلغ للمعنى العميق الذي تَدُلّ عليه لفظة "لماذا" برتبة ثانية، والذي يقف خلف معنى التساؤل، لأنّه وببساطة، وعند استحضاره  للفظ "لماذا" ومعنى التساؤل الذي يتعلق به، ستنسكب من خلال التداعي كل تلك المعاني التي تَحْمِلها المفردات التي ذكرناها سابقًا ـ البحث، الحقيقة، التعب، التفكر، السير... ـ ، وهذه المعاني ستستحضر معها كماً هائلاً من المعايشات الوجودية، التي مرّت على الوجدان في مراحل مختلفة من مسيرة البحث والسير في توسل الحقيقة، والتي بدأت على أعتاب أبواب لفظة "لماذا" وأخواتها، بعد أن خُرق حجاب الأُلفة بتلك الإرادة الجامحة، واليقين أن بعد المعاني الموضوعة تكمن حقائق المعرفة الحقّة.
وإلى هنا يمكن للعقل البشري أن يدرك ما تمثله عبارة "لماذا" وأخواتها من أهمية، فهي عبارة عن المفتاح الذي تفتح به بوابات المعرفة الحقّة الموصلة للكمال البشري، وهي العلامة والدّلالة الدّالة على الطريق الأسمى لبلوغ الحقائق الحقّة، وهي المِعْوَل الذي به يُحفر في جدران الجهل والألفة ـ التي هي أكثر جدران الجهل لطافة ـ لبلوغ أنوار الحقيقة والمعرفة الحقّة.
ومن الإشارات المولوية اللطيفة في القرآن، والتي تكشف عن أهمية ما نحن في مقام الحديث عنه، أنّ حقيقة عبارة "لماذا" هي الحقيقة الأولى التي عاشها وبَدَرَتْ من المخلوق ـ الملائكة ـ في محضر العظمة المولويّة، فقبلها العظيم بكل كرمٍ، بل وجعلها أساسًا أركز عليه هبته ـ العقل ـ التي صيّرت الإنسان مميّزًا عن غيره من الموجودات، وهي ثاني الحقائق البارزة في الحوار الوجودي القرآني الذي تعلّق بوجود الإنسان في عالم الدنيا، ولا يسبقها فيه إلاّ الإخبار الإلهي بجعل وتحقيق الوجود البشري في عوالم الدنيا.
((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31))(البقرة ـ 30ـ31).
وأخيرًا نختم فنقول: إذا كانت لفظة "لماذا" وأخواتها، دالة على التساؤل، وكذلك لها معنى أعمق، يمثل كل ما ذكرناه سابقا، وبالتالي فبلحاظ ما يمثله، كانت وصارت لها أهمية كبرى في عوالم العلم والمعرفة، المرتبطة هي الأخرى بمسيرة الإنسان الكمالية، إذا كان الأمر كما نقرّره، فلما الخشية والرهبة من التسائل، ولما الرفض والنفور من أصحابها المبتدئين في طلب المعرفة؟!

حبيب مقدم 

قد يهمك ايضا ـــــــــــــــــــــ