ما زال التاريخ يشكل جدلية صعبة
بين الحاضر والماضي، وبتعبير أدق، بين الحداثويين ممن لا يقبل أن
نحتكم للماضي وما حمله لنا التأريخ، وبين من ما زال يعيش في أتون
الماضي، ولا يقبل عنه فكاكا.
والحقيقة أن التأريخ ـ ونقصد هنا
بالتاريخ هو الحوادث السابقة التي تشكل مفاصلا مهمة في سريان
الحاضر ـ مادة التقدم، وليس منصفا من لا يستلهم التأريخ ليبني منه
المستقبل، خصوصا وأن ليس من شيء في حياتنا إلا وله أس ماضوي، بل
وله علاقة أبوة وبنوة بالتاريخ، فالحاضر أبن الماضي، والتـاريخ
يتناسل أحداثا.
وبشيء تفصيلي، فأن ما نملكه اليوم
من بُنية فكرية وثقافية ولجميع المجتمعات، إنما هي من ولادات ذاك
الماضي، بل وربما الماضي السحيق، فتجارب البشرية تتناسل وتتوالد،
لتشكل خزينا معرفيا يستفاده هذا الجيل عن سابقه، وجيل عن جيل، منذ
بدء الخليقة حتى يوم النشور.
ووسيلة التأريخ هي الرواية،
وبتعبير أدق، المنقول من الأحداث، شفاها كانت هذه الرواية أو
تحريرية أو تقريرية، وهو ما يُحّتم علينا أن نقف كثيرا عند البطون
الحبلى لهذا التاريخ، نستكشف مفارقاتها، نستنطق أحداثها، ثم
نستقرأ ما آلت اليه الأشياء، نُجهض الحمل الفاسد، ونرعى البذرة
الطيبة؛ وإلا فلا تشملنا العبرة، والعبرة حكمة، والحكمة عقل
العاقل.
يستبطن كلامنا هذا ردا على من
تّقول بضرورة فصلنا عن التأريخ، مدعيا بأن: "لا داعيا للغوص في
الماضي، ومن الأولى ترك أولين لشأنهم وعدم مباراتهم فيما قالوا
وفعلوا، لأن ـ والكلام لفريق الحداثويين ممن يريد تقاطعا مع
الماضي ـ أن انبش في الماضي واستداء الحوادث منه مبعثا للفتنة
والتناحر"!
ورّدنا على هكذا ادعاء، هو أن
البحث عن الحقيقة وتأسيس اصولها وتنقيتها من الشوائب والذوائب،
إنما هي ضالة العاقل، وليس فتنة كما يدعي أرباب هذا الرأي
المأسوف، كما إن هذا العمل العقلائي لا يراد منه تمزيق الأمة بأي
حال من الأحوال، ولا تشويشا لرأي العوام، بل أن تغييب الحقيقة هو
في كتمان حوادث الماضي، وهذا الكتمان اقسى من الافصاح عنها ـ
الحقيقة ـ وعن أرباها، كلامنا هذا في مجمل التأريخ، فما بالك
والحديث عن تأريخ الدين، ومنه بطبيعة الحال ما ورد ونُقل عن علاقة
مفارقات ابتعاث الأنبياء والرسل وما رافق ذلك من مواقف تتطلب
استدعاء منصف؛ إفادة للحاضر، خصوصا وأن في بعض هذا المفارقات ما
يشكل انتكاسة كبرى تتطلب منا فهما جديدا لما حدث بل ومحاكمة من
كتب هذا التأريخ أو نقل تلك الحادثة، إذا ما زاغ في نقله عن الحق
والحقيقة.
نعم.. الحق ابن الحقيقة، والحق
الذي نتحدث عنها هنا إنما هو السبب الذي لأجله بُعث الأنبياء
وأُرسلت الرسالات وتحركت في سبيله قافلة المصلحين، وأريقت على
مذبحها؛ الدماء الزاكيات .
الحق والحقيقة هما مهمة الدين،
ووظيفة المرسلين، واستنطاقهما واجب عقلائي على من لديه عقل
وبصيرة، وإلا فقطع سلسلة الأحداث ـ عبر مفهوم عدم محاكمة الماضي
وهجر التاريخ كليا ـ سيجعل من الحقيقة ناقصة منقوصة، وهو ما لا
يريده الله جل شأنه من مفهوم التكامل والترقي التي ينشدها في
التراتب المجتمعي والإزاحات الجيلية.
كلامنا هذا ـ وإن كان قاسيا ـ
فليس من وراءه إلا مطلبنا الأوحد في البحث عن الحقيقة، الحقيقة
التي زيفها الأدعياء خصوصا هؤلاء الذين نقلوا لنا بعض المفاهيم
الدينية، بل وأولئك الذين نمذجوا لنا نماذج تاريخية من الرجال،
كان الأحرى بهم وبنا محاكمتهم وربما جلدهم، وإن غبر عليهم الزمن
بغباره، كمن نقل لنا عن النبي الأكرم ـ زروا وبهتانا ـ ومنهم
بطيعة الحال وعاظ السلاطين وإعلام البلاط كابن هريرة، أولئك الذين
كتبوا وكتبوا وكتبوا حتى غابت الحقيقة وتاه
الناس.
البحث عن الحقيقة، لا بُّد أن يمر
بقراءة متأنية للتأريخ، ثم استنطاق مفارقاته، والأهم من كل ذلك،
اسقاط القداسة عن غير المقدس، وعدم جره نحو القداسة وهو عنها
أبعد، لئلا تصاب أجيالنا القادمة بالانفصام المفاهيمي، ففي الوقت
الذي يُصّرح في الإسلام الأصيل جهارا نهارا عن خطه السلمي، يحبل
لنا التأريخ بأسماء دموية يتقيأ منها أهل النار؛ كـ "خلفاء" بني
أموية وبنو العباس، وقبلهم وبعدهم، فضلا عن حواشيهم وجنودهم
كالحجاج ماضيا ومحمد بن عبد الوهاب حاضرا.
نعم.. الحقيقة تنادي بنصب مقصلة
لهؤلاء، بل ونبش التأريخ بحثا عن حقيقتهم، وتحميلها ـ كمنهج ـ ما
آلت اليه الأمور من صناعة الإسلام المتطرف؛ فما قيمة الحجاج مثلا،
أو عبد الوهاب أو أبن تيمية أو يزيد عليهم لعائن الله؛ حتى نجره
صوب قداسة الدين ونُلبسه ما ليس أهلا له من مسوح وهيبة، ونصبغ
عليه من الألقاب ما لا يستحقه كالصحابي أو العالم أو ثقة الإسلام؛
أنه لعمري تزويا للحقيقة، وتقنيعا لوجوههم النتنة؛ بقناع الإسلام
ـ وهو منهم براء ـ في وقت كان الأولى أن لا يبقى لهؤلاء ذكر ولو
في مزبلة التأريخ.
وما مسارنا في منهج للأفك
التاريخي هذا إلا لتتمة لقافلة المثقفين عبر الأزمان ممن ساهموا
ولو بصمتهم عن ولادة إسلام مسخ لا يمت للإسلام المحمدي بصلة،
خصوصا وإن أشد الأفك؛ السكوت عن الحق وفضح هؤلاء الكفرة مداراة
لمشاعر أشباههم ممن يساكننا اليوم باسم الدين، وهم يعبثون بالخلق
قتلا وتشريدا، بل وصيروا للإسلام نسخة أخرى، نسخة دموية مرعبة،
يمثل الإرهاب مادتها، في وقت تُرك الإسلام الحقيقي بنسخته
المحمدية العلوية الحسينية، وصار الناس اليوم يتلقفون تلك النسخ
الإرهابية ويصدرونها على إنها الإسلام الذي جيء به على يد نبي
الإنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله سلم واستمر على
طريقة ال بيته الطيبين الطاهرين، وهو ما يستدعي مسؤولية الجميع عن
تبيان الحقيقة، وإن كانت مسؤولة كبيرة وإرث ثقيل، إلا إن مهمة
اماطة اللوثة عن دين الله هي من واجبات المسلم، أي كان ويكون،
وأنى كان ويكون، ولا يكون ذلك إلا من خلال اعادة ترتيب أوراق
التاريخ، والنبش في الماضي والقفز فوق الهيبة المصطنعة التي فُرصت
علينا من قبل اصحاب القلم المأجور، تحقيقا منا للحق والحقيقة، وكي
لا يزيغ الإسلام في منعرجات الأحداث ويقف بعيدا عن مكانته
السامية، مستقيلا تحت وطأة الطغاة ممن يكون التعريض منا بهم
أحق من التشريف.
وعلى هذا، فأن الأجيال المعاصرة
من المثقفين أمام مسؤولية جبارة تحتاج لجهود مخلصة وآليات حفر
وتفكير تأريخي غير تقليدي، يؤثث لبنيان الحقيقة ويكسر جمود الباطل
المقدس بمعاول هدم علمية ومنهجية، وصولا لبيئة تسود فيها الحقيقة،
الحقيقة التي تُنهي نظريات استغباء الجماهير واستغفالهم بعنوان
المقدس، وفضح المناهج السياسية التي وظفت الثقافة القشرية للدين،
وأسست لتعمية جيلية كاملة؛ تغطية منها للحقيقة وانحيازا
لأيديولوجية الباطل الممنهج، ومنه التاريخ المؤدلج بمفاهيم التيار
الأموي والعباسية وفي المستقبل؛ التيار الصدامي، خصوصا وأن هذا
التأريخ المزيف قد استطاع التحكم في مسار الفكر والثقافة
الإسلامية بل وأوصل لنا النسخة المشوهة للإسلام، اسلام التفجير
والتكفير.
هذه أجابتنا مختصرة عن سؤال
افتراضي: لماذا نقرأ التاريخ ونستدعي شخوصه؟ إجابة على اختصارها،
إلا أنها مستلة من السنن القرآنية في خلق العبرة وتسمية الأشياء
بمسمياتها، ومنها قوله جل شأنه: ((كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا
ذِكْرًا))(سورة طه ـ 99) وقوله: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ))(سورة البقرة ـ 256) وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52))(سورة النساء ـ 51 ـ52) وقوله
تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا(61))(سورة النساء ـ 59 ـ61) وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ))(سورة النحل ـ 36).